كتاب نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (اسم الجزء: 1)

هُوَ اللِّسَانُ وَحْدَهُ وَمُتَعَلِّقُهُ يَعُمُّ النِّعْمَةَ وَغَيْرَهَا، وَمَوْرِدُ الْعُرْفِيُّ يَعُمُّ اللِّسَانَ وَغَيْرَهُ وَمُتَعَلِّقُهُ يَكُونُ النِّعْمَةُ وَحْدَهَا، فَاللُّغَوِيُّ أَعَمُّ بِاعْتِبَارِ الْمُتَعَلِّقِ وَأَخَصُّ بِاعْتِبَارِ الْمَوْرِدِ، وَالْعُرْفِيُّ بِالْعَكْسِ. وَالشُّكْرُ لُغَةً: فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ لِكَوْنِهِ مُنْعِمًا عَلَى الشَّاكِرِ. وَعُرْفًا: صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ السَّمْعِ وَغَيْرِهِ إلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ. وَالْمَدْحُ لُغَةً: الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ مُطْلَقًا عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ، وَعُرْفًا: مَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمَمْدُوحِ بِنَوْعٍ مِنْ الْفَضَائِلِ، وَالذَّمُّ نَقِيضُ الْحَمْدِ، وَالْكُفْرَانُ نَقِيضُ الشُّكْرِ، وَالْهَجْوُ نَقِيضُ الْمَدْحِ، وَجُمْلَةُ الْحَمْدِ لِلَّهِ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا إنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى لِحُصُولِ الْحَمْدِ بِهَا مَعَ الْإِذْعَانِ لِمَدْلُولِهَا.
وَقِيلَ إنَّهَا خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً شَرْعًا لِلْإِنْشَاءِ، وَالْحَمْدُ مُخْتَصٌّ بِاَللَّهِ كَمَا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَةُ، سَوَاءٌ أَجُعِلَتْ لَامُ التَّعْرِيفِ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، أَمْ لِلْجِنْسِ كَمَا عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيّ؛ لِأَنَّ لَامَ لِلَّهِ لِلِاخْتِصَاصِ فَلَا مَرَدَّ مِنْهُ لِغَيْرِهِ، إذْ الْحَمْدُ فِي الْحَقِيقَةِ كُلُّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــSعَبَّرَ بِالْمَصْدَرِ بَدَلَ الْمَوْرِدِ لَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْرِدَ هُوَ مَا تَنْتَهِي إلَيْهِ الْإِبِلُ الشَّارِبَةُ مَثَلًا، وَالْمَصْدَرُ هُوَ مَا تُسَاقُ مِنْهُ لِلْمَاءِ، وَاللِّسَانُ مَحَلٌّ يَصْدُرُ مِنْهُ الْحَمْدُ لَا أَنَّهُ الَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ، لَكِنْ فِي اخْتِيَارِ الْمَوْرِدِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْحَمْدَ كَأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ الْقَلْبِ فَوَرَدَ عَلَى اللِّسَانِ (قَوْلُهُ لِكَوْنِهِ مُنْعِمًا عَلَى الشَّاكِرِ) أَيْ أَوْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ لِلْغَيْرِ خُصُوصِيَّةٌ بِالْحَامِدِ كَوَلَدِهِ وَصَدِيقِهِ أَوْ لَا وَلَوْ كَافِرًا (قَوْلُهُ: جَمِيعُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ) هَلْ يُشْتَرَطُ لِتَسْمِيَةِ صَرْفِهَا شُكْرًا كَوْنُ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ لَا، فَيَكْفِي لِتَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ صَرْفُهَا كُلُّهَا فِي الطَّاعَةِ وَلَوْ حَصَلَ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِيهِ نَظَرٌ، وَقُوَّةُ مَا نَقَلَهُ سم عَلَى ابْنِ حَجَرٍ عِنْدَ حَاشِيَةِ شَرْحِ الْمَطَالِعِ يُفِيدُ الْأَوَّلَ، وَيُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِمَنْ حَمَلَ جِنَازَةً مُتَفَكِّرًا فِي مَصْنُوعَاتِ اللَّهِ، نَاظِرًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ لِئَلَّا يَزِلَّ بِالْمَيِّتِ، مَاشِيًا بِرِجْلِهِ إلَى الْقَبْرِ، شَاغِلًا لِسَانَهُ بِالذِّكْرِ وَأُذُنَهُ بِاسْتِمَاعِ مَا فِيهِ ثَوَابٌ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ.
(قَوْلُهُ: مُطْلَقًا عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ) اخْتِيَارِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ (قَوْلُهُ: وَالذَّمُّ نَقِيضُ الْحَمْدِ) أَيْ فَيَكُونُ لُغَةً: ذِكْرُ عُيُوبِ الْغَيْرِ، وَعُرْفًا: الْإِتْيَانُ بِمَا يُشْعِرُ بِالتَّحْقِيرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِاللِّسَانِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَفِي تَعْبِيرِهِ بِالنَّقِيضِ تَجَوُّزٌ؛ لِأَنَّ نَقِيضَ كُلِّ شَيْءٍ رَفْعُهُ، وَمُجَرَّدُ عَدَمِ الثَّنَاءِ لَا يَكُونُ ذَمًّا (قَوْلُهُ: وَالْكُفْرَانُ نَقِيضُ الشُّكْرِ) عَبَّرَ بِالْكُفْرَانِ دُونَ الْكُفْرِ لِمَا قِيلَ إنَّ الْكُفْرَ إنْكَارُ مَا عُلِمَ مَجِيءُ الرَّسُولِ بِهِ ضَرُورَةً، وَالْكُفْرَانُ إنْكَارُ النِّعْمَةِ. وَعِبَارَةُ الْعَيْنِيِّ عَلَى الْبُخَارِيِّ: الْكُفْرَانُ مَصْدَرٌ كَالْكُفْرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْكُفْرَ فِي الدِّينِ وَالْكُفْرَانَ فِي النِّعْمَةِ، وَفِي الْعُبَابِ الْكُفْرُ نَقِيضُ الْإِيمَانِ، وَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ كُفْرًا، وَالْكُفْرُ أَيْضًا جُحُودُ النِّعْمَةِ وَهُوَ ضِدُّ الشُّكْرِ، وَقَدْ كَفَرَهَا كَفُورًا وَكُفْرَانًا اهـ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَفِي الْمِصْبَاحِ: كَفَرَ بِاَللَّهِ يَكْفُرُ كُفْرًا وَكُفْرَانًا، وَكَفَرَ النِّعْمَةَ وَبِالنِّعْمَةِ أَيْضًا جَحَدَهَا اهـ.
وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْكُفْرَانَ يُطْلَقُ عَلَى إنْكَارِ مَا عُلِمَ مَجِيءُ الرَّسُولِ بِهِ فَهُوَ مُسَاوٍ لِلْكُفْرِ فَلَا يَتِمُّ مَا فِي الْعَيْنِيِّ (قَوْلُهُ: مَعْنًى لِحُصُولِ الْحَمْدِ بِهَا) عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ إنْشَائِيَّةً (قَوْلُهُ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إلَخْ) قَوْلٌ آخَرُ (قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّ لَامَ لِلَّهِ لِلِاخْتِصَاصِ) قَضِيَّتُهُ أَنَّ اللَّامَ لَوْ جُعِلَتْ لِغَيْرِ الِاخْتِصَاصِ لَا تُفِيدُ الْحَصْرَ، وَقَدْ يُشْكِلُ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ إفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ مِنْ نَحْوِ الْكَرَمِ فِي الْعَرَبِ مِمَّا كَانَ الْمُبْتَدَأُ فِيهِ مُعَرَّفًا فَاللَّامُ الْجِنْسِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْخَبَرُ مُعَرَّفًا بِهَا أَمْ لَا، فَالْأَوْلَى جَعْلُ الْقَصْرِ فِيهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQدَلَالَتِهِمَا (قَوْلُهُ: وَغَيْرُهَا) أَيْ، وَهُوَ الْفَضَائِلُ عَلَى مَا قَدَّمَهُ (قَوْلُهُ: عَلَى الشَّاكِرِ) أَيْ وَغَيْرِهِ كَمَا هُوَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، لَكِنْ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِ الْفَخْرِ الرَّازِيّ اخْتِيَارُ اشْتِرَاطِ وُصُولِ النِّعْمَةِ إلَى الشَّاكِرِ فِي تَحَقُّقِ الشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ، فَإِنْ كَانَتْ النُّسْخَةُ الْأُولَى نُسْخَةَ الشَّيْخِ فَلَعَلَّهُ نَحَا هَذَا الْمَذْهَبَ (قَوْلُهُ: صَرَفَ الْعَبْدُ جَمِيعَ إلَخْ) أَيْ فِي آنٍ وَاحِدٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ، وَيُصَرِّحُ بِهِ مَا نَقَلَهُ الشِّهَابُ بْنُ قَاسِمٍ فِي حَوَاشِي التُّحْفَةِ عَنْ الدَّوَانِيّ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِمَّا صَوَّرَهُ بِهِ شَيْخُنَا فِي حَاشِيَتِهِ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ: عَلَى اخْتِصَاصِ الْمَمْدُوحِ) لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالِاخْتِصَاصِ التَّحَقُّقُ بِهَذَا النَّوْعِ وَالِاتِّصَافُ بِهِ، لَا أَنَّهُ مُتَفَرِّدٌ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ

الصفحة 26