كتاب نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (اسم الجزء: 1)

لَهُ، إذْ مَا مِنْ خَيْرٍ إلَّا وَهُوَ مُوَلِّيهِ بِوَسَطٍ أَوْ غَيْرِ وَسَطٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] وَفِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى حَيٌّ قَادِرٌ مُرِيدٌ عَالِمٌ، إذْ الْحَمْدُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ، أَمْ لِلْعَهْدِ كَاَلَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَأَجَازَهُ الْوَاحِدِيُّ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْحَمْدَ الَّذِي حَمِدَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَحَمِدَهُ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ مُخْتَصٌّ بِهِ، وَالْعِبْرَةُ بِحَمْدِ مَنْ ذَكَرَ فَلَا مَرَدَّ مِنْهُ لِغَيْرِهِ، وَأَوْلَى الثَّلَاثَةِ الْجِنْسُ، وَلَمَّا كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ لِذَاتِهِ لَمْ يَقُلْ الْحَمْدُ لِلْخَالِقِ أَوْ لِلرَّازِقِ أَوْ نَحْوِهِ لِئَلَّا يُوهِمَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ الْحَمْدَ لِذَلِكَ الْوَصْفِ، إذْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمُشْتَقِّ يُشْعِرُ بِعِلِّيَّةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ثَمَانِيَةُ أَحْرُفٍ وَأَبْوَابُ الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةٌ، فَمَنْ قَالَهَا عَنْ صَفَاءِ قَلْبِهِ اسْتَحَقَّ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ.
(الْبَرُّ) بِفَتْحِ الْبَاءِ: أَيْ الْمُحْسِنُ، وَقِيلَ اللَّطِيفُ، وَقِيلَ الصَّادِقُ فِيمَا وَعَدَ، وَقِيلَ خَالِقُ الْبِرِّ بِكَسْرِ الْبَاءِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ، وَقِيلَ الرَّفِيقُ بِعِبَادِهِ يُرِيدُ بِهِمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمْ الْعُسْرَ، وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ بِجَمِيعِ جِنَايَاتِهِمْ، وَيَجْزِيهِمْ بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا وَلَا يَجْزِيهِمْ بِالسَّيِّئَةِ إلَّا مِثْلَهَا، وَيَكْتُبُ لَهُمْ الْهَمَّ بِالْحَسَنَةِ وَلَا يَكْتُبُ عَلَيْهِمْ الْهَمَّ بِالسَّيِّئَةِ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ (الْجَوَادُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــSمُسْتَفَادًا مِنْ كَوْنِ الْمُبْتَدَإِ فِيهِ مُعَرَّفًا فَاللَّامُ الْجِنْسِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْمُبْتَدَأَ الْمُعَرَّفَ فَاللَّامُ الْجِنْسِ مَحْصُورٌ فِي الْخَبَرِ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ بِقَوْلِهِ:
مُبْتَدَأٌ فَاللَّامُ جِنْسٍ عُرِّفَا ... مُنْحَصِرٌ فِي مُخْبِرٍ بِهِ وَفَا
وَإِنْ عُرِّيَ مِنْهَا وَعُرِّفَ الْخَبَرْ ... بِاللَّامِ مُطْلَقًا فَعَكْسٌ اسْتَقَرْ
اهـ.
(قَوْلُهُ: وَفِيهِ إشْعَارٌ) أَيْ فِي اخْتِصَاصِهِ بِاَللَّهِ (قَوْلُهُ: وَالْعِبْرَةُ بِحَمْدِ مَنْ ذُكِرَ) أَيْ أَمَّا حَمْدُ غَيْرِهِمْ فَكَالْعَدِمِ فَإِذَا صَدَرَ مِنْهُمْ حَمْدٌ لِغَيْرِهِ تَعَالَى لَا يَفُوتُ اخْتِصَاصُ الْحَمْدِ بِهِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ (قَوْلُهُ: وَأَوْلَى الثَّلَاثَةِ الْجِنْسُ) أَيْ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى ثُبُوتِ جَمِيعِ الْمَحَامِدِ لَهُ فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بُرْهَانِيٌّ، وَهُوَ كَدَعْوَى الشَّيْءِ بِبَيِّنَةٍ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ الدَّعْوَةِ الْمُجَرَّدَةِ (قَوْلُهُ أَوْ نَحْوِهِ) أَيْ مَا ذُكِرَ (قَوْلُهُ: اسْتَحَقَّ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ) أَيْ اسْتَحَقَّ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ فَيُخَيَّرُ بَيْنَهَا إكْرَامًا لَهُ، وَإِنَّمَا يَخْتَارُ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ مِنْهُ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِهِ إنَّمَا يَدْخُلُ مِنْ الْبَابِ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ مِنْهُ وَبَيْنَ تَخْيِيرِهِ بَيْنَ الثَّمَانِيَةِ أَبْوَابٍ (قَوْلُهُ وَقِيلَ اللَّطِيفُ) أَشْعَرَتْ حِكَايَتُهُ مَا عَدَا الْأَوَّلَ بِقِيلٍ بِضَعْفِهِ، وَيُوَافِقُهُ بَلْ يُصَرِّحُ بِهِ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، فَتَفْسِيرُهُ بِاللَّطِيفِ أَوْ الْعَالِي فِي صِفَاتِهِ أَوْ الْخَالِقِ الْبَرِّ أَوْ الصَّادِقِ فِيمَا وَعَدَ أَوْلِيَاءَهُ بَعِيدٌ: أَيْ لِمَا قَدَّمَهُ مِنْ أَنَّ الْبِرَّ بِسَائِرِ مَوَادِّهِ يَرْجِعُ لِلْإِحْسَانِ كَبَّرَ فِي يَمِينِهِ: أَيْ صَدَقَ، وَكَبَّرَ اللَّهُ حَجَّهُ: أَيْ قَبِلَهُ، وَأَبَرَّ فُلَانٌ عَلَى أَصْحَابِهِ: أَيْ عَلَاهُمْ، قَالَ: إلَّا أَنْ يُرَادَ بَعْضُ مَاصَدَقَاتِ أَوْ غَايَاتِ الْبِرِّ اهـ لَكِنْ نَازَعَهُ سم بِأَنَّ رُجُوعَهَا إلَيْهِ: أَيْ الْإِحْسَانِ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ الْمَدْلُولُ لِجَوَازِ أَنَّهَا الْمَدْلُولُ مِنْ حَيْثُ خُصُوصِهَا بَلْ ظَاهِرُ الْكَلَامِ ذَلِكَ فَتَأَمَّلْهُ.
(قَوْلُهُ: فِيمَا وَعَدَ) زَادَ ابْنُ حَجَرٍ أَوْلِيَاءَهُ (قَوْلُهُ: وَلَا يَكْتُبُ عَلَيْهِمْ الْهَمَّ بِالسَّيِّئَةِ) أَيْ حَيْثُ يُصَمِّمُوا عَلَيْهَا، وَإِلَّا كَتَبَ عَلَيْهِمْ إثْمَ التَّصْمِيمِ دُونَ إثْمِ السَّيِّئَةِ الَّتِي هَمُّوا بِهَا (قَوْلُهُ: الْجَوَادُ) وَالْإِشْعَارُ الْعَاطِفُ بِالتَّغَايُرِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ الْمُنَزَّلِ مَنْزِلَتَهُ حُذِفَ هُنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ مُسْلِمَاتٌ مُؤْمِنَاتٌ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْآيَاتِ، وَأَتَى بِهِ فِي نَحْوِ الْأَوَّلِ وَالْآخَرِ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَوْلُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ: لَمْ يَقُلْ الْحَمْدُ لِلْخَالِقِ) أَيْ ابْتِدَاءً فَلَا يُنَافِيهِ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ الْبَرَّ الْجَوَّادَ إلَخْ وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا الصَّنِيعِ إلَى اسْتِحْقَاقِهِ تَعَالَى لِلْحَمْدِ لِذَاتِهِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَلِصِفَاتِهِ ثَانِيًا وَبِالْعَرْضِ.
(قَوْلُهُ: أَيْ الْمُحْسِنِ) رَجَعَ إلَيْهِ الشِّهَابُ ابْنُ حَجَرٍ جَمِيعَ الْأَقْوَالِ الْآتِيَةِ، فَمَا قَالُوهُ فِيهَا مَاصَدَقَاتٌ أَوْ غَايَاتٌ لِلْإِحْسَانِ (قَوْلُهُ: وَلَا يُكْتَبُ عَلَيْهِمْ الْهَمُّ) أَيْ وَإِنْ صَمَّمُوا؛ لِأَنَّهُمْ إذَا صَمَّمُوا إنَّمَا يُكْتَبُ عَلَيْهِمْ التَّصْمِيمُ الْمُسَمَّى بِالْعَزْمِ الَّذِي هُوَ رُتْبَةٌ فَوْقَ الْهَمِّ، وَإِنَّمَا يُكْتَبُ عَلَيْهِمْ

الصفحة 27