كتاب نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (اسم الجزء: 1)

سَائِقٍ إلَهِيٍّ لِذَوِي الْعُقُولِ بِاخْتِيَارِهِمْ الْمَحْمُودِ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ بِالذَّاتِ.
وَقِيلَ الطَّرِيقَةُ الْمَخْصُوصَةُ الْمَشْرُوعَةُ بِبَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، سُمِّيَتْ مِنْ حَيْثُ انْقِيَادِ الْخَلْقِ لَهَا دِينًا، وَمِنْ حَيْثُ إظْهَارِ الشَّارِعِ إيَّاهَا شَرْعًا وَشَرِيعَةً، وَمِنْ حَيْثُ إمْلَاءِ الشَّارِعِ إيَّاهَا مِلَّةً (أَحْمَدُهُ أَبْلَغَ حَمْدٍ) أَيْ أَنْهَاهُ (وَأَكْمَلَهُ) أَيْ أَتَمَّهُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: قَصَدَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ حَمْدُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَقِّ لَا كَمَا وَقَعَ لِلْمُعْتَزِلَةِ مِنْ نَفْيِ صِفَاتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ وَبَعْضِ الْإِضَافِيَّةِ (وَأَزْكَاهُ) أَيْ أَنَمَاهُ (وَأَشْمَلَهُ) أَيْ أَعُمَّهُ.
الْمَعْنَى: أَصِفُهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا جَمِيلٌ، وَرِعَايَةُ جَمِيعِهَا أَبْلَغُ فِي التَّعْظِيمِ الْمُرَادِ بِمَا ذَكَرَ، إذْ الْمُرَادُ بِهِ إيجَادُ الْحَمْدِ لَا الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ سَيُوجَدُ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ حَمْدِهِ الْأَوَّلِ كَمَا أَفَادَهُ الشَّارِحُ؛ لِأَنَّهُ ثَنَاءٌ بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ بِرِعَايَةِ الْأَبْلَغِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَذَاكَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا وَهِيَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَالِكٌ لِجَمِيعِ الْحَمْدِ مِنْ الْخَلْقِ، أَوْ مُسْتَحِقٌّ لَأَنْ يَحْمَدُوهُ، وَإِنْ لَمْ تُرَاعَ الْأَبْلَغِيَّةُ هُنَا بِأَنْ يُرَادَ الثَّنَاءُ بِالْجَمِيلِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ بِالثَّنَاءِ بِكُلِّ الصِّفَاتِ وَبِبَعْضِهَا، وَذَلِكَ الْبَعْضُ أَعَمُّ مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ لِصِدْقِهِ بِهَا وَبِغَيْرِهَا وَبِهَا مَعَ غَيْرِهَا الْكَثِيرِ فَالثَّنَاءُ بِهِ أَبْلَغُ مِنْ الثَّنَاءِ بِمَا فِي الْجُمْلَةِ أَيْضًا، نَعَمْ الثَّنَاءُ بِهَا مِنْ حَيْثُ تَفْصِيلِهَا أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ مِنْ الثَّنَاءِ بِهِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ عُمُومُ الْحَمْدِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْمَحْمُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ النِّعَمُ لَا يُتَصَوَّرُ حَصْرُهَا كَمَا سَبَقَ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ نِسْبَةُ عُمُومِ الْمَحَامِدِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى جِهَةِ الْإِجْمَالِ بِأَنْ يَعْتَرِفَ مَثَلًا بِاتِّصَافِ اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ
ـــــــــــــــــــــــــــــSوَمَسَائِلِهِ كُلُّ مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ يُبَرْهَنُ عَلَيْهِ فِيهِ. وَفَائِدَتُهُ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي. وَغَايَتُهُ انْتِظَامُ أَمْرِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ مَعَ الْفَوْزِ بِكُلِّ خَيْرٍ دُنْيَوِيٍّ وَأُخْرَوِيٍّ انْتَهَى ابْنُ حَجَرٍ بِحُرُوفِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
(قَوْلُهُ: سَائِقٍ إلَهِيٍّ لِذَوِي الْعُقُولِ بِاخْتِيَارِهِمْ الْمَحْمُودِ) فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي عَلَى حَوَاشِي الْعَضُدِ لِبَعْضِهِمْ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ إلَهِيٍّ عَنْ الْأَوْضَاعِ الْبَشَرِيَّةِ نَحْوَ الرُّسُومِ السِّيَاسِيَّةِ وَالتَّدْبِيرَاتِ الْمَعَاشِيَّةِ، وَقَوْلُهُ سَائِقٍ لِذَوِي الْأَلْبَابِ احْتِرَازٌ عَنْ الْأَوْضَاعِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي تَهْتَدِي بِهَا الْحَيَوَانَاتُ لِخَصَائِصِ مَنَافِعِهَا وَمَضَارِّهَا، وَقَوْلُهُ بِاخْتِيَارِهِمْ الْمَحْمُودِ عَنْ الْمَعَانِي الِاتِّفَاقِيَّةِ وَالْأَوْضَاعِ الْقَسْرِيَّةِ، وَقَوْلُهُ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ بِالذَّاتِ عَنْ نَحْوِ صِنَاعَتَيْ الطِّبِّ وَالْفِلَاحَةِ، فَإِنَّهُمَا وَإِنْ تَعَلَّقَا بِالْوَضْعِ الْإِلَهِيِّ: أَعْنِي تَأْثِيرَ الْأَجْسَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ وَكَانَتَا سَائِقَتَيْنِ لِأُولِي الْأَلْبَابِ بِاخْتِيَارِهِمْ الْمَحْمُودِ إلَى صِنْفٍ مِنْ الْخَيْرِ، فَلَيْسَتَا تُؤَدِّيَانِهِمْ إلَى الْخَيْرِ الْمُطْلَقِ الذَّاتِيِّ: أَعْنِي مَا يَكُونُ خَيْرًا بِالْقِيَاسِ إلَى كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ وَالْقُرْبُ إلَى خَالِقِ الْبَرِّيَّةِ انْتَهَى ابْنُ قَاسِمٍ عَلَى ابْنِ حَجَرٍ.
(قَوْلُهُ: وَشَرِيعَةً) كَمَا أَنَّ الشَّرِيعَةَ مَشْرَعَةُ الْمَاءِ وَهِيَ مَوْرِدُ الشَّارِبَةِ انْتَهَى مُخْتَارٌ (قَوْلُهُ: أَيْ أَتَمَّهُ) هَذَا قَدْ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ بَيْنَ الْأَبْلَغِ وَالْأَتَمِّ، وَتَفْسِيرُ الشَّارِحِ بِمَا ذَكَرَهُ فِيهِمَا يَقْتَضِي عَدَمَ التَّغَايُرِ، إذْ الْمُرَادُ بِالْأَتَمِّ الَّذِي بَلَغَ غَايَةَ الشَّيْءِ هُوَ حَقِيقَةُ النِّهَايَةِ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّعْبِيرِ بِاسْمِ التَّفْضِيلِ يَقْتَضِي أَنَّ النِّهَايَةَ وَالتَّمَامَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَفْرَادُ بَعْضِهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ؛ لِأَنَّ نِهَايَةَ الشَّيْءِ وَتَمَامَهُ لَا تَتَفَاوَتُ فِيهِمَا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: أَرَادَ بِالتَّمَامِ وَالنِّهَايَةِ مَا يَقْرَبُ مِنْهُمَا (قَوْلُهُ: قَصَدَ بِذَلِكَ) أَيْ بِقَوْلِهِ أَحْمَدُهُ أَبْلَغَ حَمْدٍ إلَخْ (قَوْلُهُ: الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَقِّ) مِنْ ثُبُوتِ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَغَيْرِهَا (قَوْلُهُ وَرِعَايَةٌ) تَبِعَ فِيهِ الشَّارِحَ فِي شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ هُنَا؛ لِأَنَّ أَبْلَغَ الْحَمْدِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ، إذْ لَوْ حَمِدَ بِبَعْضِهَا لَمْ يَكُنْ أَبْلُغَ (قَوْلُهُ: وَهُوَ أَبْلَغُ) أَيْ أَحْمَدُهُ إلَخْ (قَوْلُهُ: بِرِعَايَةِ الْأَبْلَغِيَّةِ) فِيهِ مَا تَقَدَّمَ (قَوْلُهُ: وَهِيَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ) أَيْ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ إلَخْ (قَوْلُهُ: عَلَى جِهَةِ الْإِجْمَالِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ: عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَقِّ) أَيْ مِنْ إثْبَاتِ جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ تَعَالَى حَقِيقِيِّهَا وَإِضَافِيِّهَا.
وَوَجْهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ أَبْلَغَ وَأَكْمَلَ إلَّا إذَا كَانَ يَجْمَعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ (قَوْلُهُ: وَرِعَايَةُ جَمِيعِهَا) أَيْ الصَّادِقُ بِهِ الْحَمْدُ الْمَذْكُورُ مِنْ جُمْلَةِ مَاصَدَقَاتِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامِهِ (قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّهُ ثَنَاءٌ بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ إلَخْ) هَذَا التَّعْلِيلُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الشَّارِحِ الْجَلَالِ بَلْ هُوَ مِنْ الشَّارِحِ هُنَا تَعْلِيلٌ لِكَلَامِ الْجَلَالِ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْجَلَالَ إنَّمَا رَجَّحَ مَا هُنَا لِهَذَا الْغَرَضِ لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً وَكَلَامُ الشِّهَابِ بْنِ قَاسِمٍ فِي حَوَاشِي التُّحْفَةِ فِي مَقَامِ الرَّدِّ عَلَى الشِّهَابِ ابْنِ حَجَرٍ فِي تَرْجِيحِهِ الْأُولَى مِنْ حَيْثُ اسْمِيَّتُهَا صَرِيحٌ فِي خِلَافِهِ فَلْيُرَاجَعْ (قَوْلُهُ: عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ) وَمَعَ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ ادِّعَاءِ إرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّ حَمْدَهُ وَلَوْ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ بِالْمَعْنَى

الصفحة 32