كتاب نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (اسم الجزء: 1)

وَخَبَرِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» وَخَبَرِ ابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ فِي صَحِيحَيْهِمَا «إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ بِمَا يَصْنَعُ» وَلِأَنَّ الطَّاعَاتِ مَفْرُوضَةٌ وَمَنْدُوبَةٌ، وَالْمَفْرُوضُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَنْدُوبِ وَالِاشْتِغَالُ بِالْعِلْمِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إمَّا فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ. وَعَرَّفَهُ الرَّازِيّ بِأَنَّهُ حُكْمُ الذِّهْنِ الْجَازِمِ الْمُطَابِقِ لِمُوجِبٍ، وَالسَّيِّدُ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ بِأَنَّهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِمَحَلٍّ مُتَعَلِّقَةٌ بِشَيْءٍ تُوجِبُ تِلْكَ الصِّفَةُ إيجَابًا عَادِيًا كَوْنَ مَحَلِّهَا مُمَيِّزًا لِلْمُتَعَلِّقِ تَمْيِيزًا لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقُ نَقِيضَ ذَلِكَ التَّمْيِيزِ.
وَاللَّامُ فِي الْعِلْمِ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ، وَهُوَ الْفِقْهُ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ لِلتَّفَقُّهِ، أَوْ الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ الصَّادِقُ بِالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ، وَالْفِقْهُ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ الدِّينِ، أَوْ لِاسْتِغْرَاقِ أَفْرَادِ الْعِلْمِ الْمَشْرُوعِ: أَيْ الَّذِي يُسَوِّغُ تَعَلُّمَهُ شَرْعًا. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَعُدَّتُهُ تَزِيدُ عَلَى الْمِائَةِ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرُهَا مِمَّا لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهِ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ جُمْلَةً مِنْ الطَّاعَاتِ أَفْضَلَ وَجَعَلَ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ مِنْهَا، وَكَوْنُ الْجُمْلَةِ أَفْضَلَ لَا يَضُرُّهُ كَوْنُ بَعْضِهَا أَفْضَلَ مُطْلَقًا (وَ) مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــSوَبَيْتٌ لِلْغَرِيبِ بَنَاهُ يَأْوِي ... إلَيْهِ أَوْ بِنَاءُ مَحَلِّ ذِكْرِ
وَتَعْلِيمٌ لِقُرْآنٍ كَرِيمٍ ... فَخُذْهَا مِنْ أَحَادِيثَ بِحَصْرِ
اهـ وَلَعَلَّهُ إنَّمَا فَصَّلَهَا كَذَلِكَ لِوُرُودِهَا بِأَعْيَانِهَا كَذَلِكَ مُفَرِّقَةً فِي أَحَادِيثَ، وَإِلَّا فَيُمْكِنُ رَدُّ مَا ذَكَرَهُ إلَى مَا فِي الْحَدِيثِ بِأَنْ يُجْعَلَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ وَلَوْ حُكْمًا، بِجَامِعِ أَنَّ مَا أَجْرَاهُ مِنْ الْأَنْهَارِ وَحَفَرَهُ مِنْ الْآبَارِ وَغَرَسَهُ مِنْ الْأَشْجَارِ وَلَوْ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يَقِفْهُ وَالْمُصْحَفُ الَّذِي نَسَخَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ مَثَلًا ثُمَّ مَاتَ عَنْهُ وَرِبَاطُهُ بِقَصْدِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلٍ آثَارُهُ مِنْ تَعَدِّي نَفْعِهِ لِلْمُسْلِمِينَ بَاقِيَةٌ كَبَقَاءِ الْوَقْفِ، وَقَدْ يُقَالُ فِيهِ إنَّهُ عَدَّهَا أَحَدَ عَشَرَ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ جَعَلَ بِنَاءَ الْبَيْتِ لِلْغَرِيبِ وَبِنَاءَ الْمَحَلِّ لِلذِّكْرِ وَاحِدًا نَظَرًا لِكَوْنِهِ بِنَاءً فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ إنَّهَا عَشَرَةٌ (قَوْلُهُ: فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي إلَخْ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: فَضْلُ كُلِّ عَالِمٍ عَامِلٍ عَلَى كُلِّ عَابِدٍ، وَقَوْلُهُ أَدْنَاكُمْ الضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ لِأَصْحَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِلْأَمَةِ.
أَقُولُ: وَهَذَا هُوَ الْأَبْلَغُ لِعِظَمِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَدْنَى الصَّحَابَةِ وَأَدْنَى الْأُمَّةِ (قَوْلُهُ: رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ بِمَا يَصْنَعُ) أَيْ مِنْ أَعْمَالِهِ كُلِّهَا لِعَدَمِ خُرُوجِهَا عَنْ الشَّرْعِ مَعَ قِيَامِهِ بِنِظَامِ الشَّرِيعَةِ (قَوْلُهُ وَعَرَّفَهُ الرَّازِيّ) أَيْ الْعِلْمَ (قَوْلُهُ بِأَنَّهُ حُكْمُ الذِّهْنِ الْجَازِمِ) أَيْ الْإِدْرَاكُ الْحَاصِلُ فِي الذِّهْنِ إلَخْ (قَوْلُهُ: الْمُطَابِقُ لِمُوجِبٍ) أَيْ لِسَبَبٍ أَوْجَبَ ذَلِكَ (قَوْلُهُ: أَوْ الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ) اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْمَحَلِّيُّ (قَوْلُهُ: قَالَ بَعْضُهُمْ وَعُدَّتُهُ) أَيْ الْعِلْمِ الْمَشْرُوعِ (قَوْلُهُ: تَزِيدُ عَلَى الْمِائَةِ) غَيْرَ أَنَّهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا تُبَايِنُ مَا هُوَ الْمَشْهُورُ تَبَايُنًا كُلِّيًّا، بَلْ الْفِقْهُ مَثَلًا يَجْمَعُ أَنْوَاعًا كُلٌّ مِنْهَا مُسَمًّى بِاسْمٍ عِنْدَ مَنْ اعْتَبَرَهَا بِذَلِكَ الْعَدِّ (قَوْلُهُ: وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى كَوْنِ اللَّامِ لِلِاسْتِغْرَاقِ إلَخْ (قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ) عِلَّةً مِمَّا لَا بُدَّ (قَوْلُهُ: أَفْضَلُ مُطْلَقًا) أَيْ مِنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ (قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ) عِلَّةً لِلَا يُعَكِّرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالْعِلْمِ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْأَفْضَلِ أَفْضَلُ.
(قَوْلُهُ: كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ) يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي أَدْنَاكُمْ لِلصَّحَابَةِ، وَلَا يَلْزَمُ تَفْضِيلُ الْعَالِمِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَدْنَانَا مُسَاوِيًا لِفَضْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَدْنَانَا، فَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى أَدْنَانَا فَوْقَ فَضْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ بِالضَّرُورَةِ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْضُلُ عَلَى أَدْنَانَا بِعَشْرِ دَرَجَاتٍ مَثَلًا لَزِمَ أَنَّ الْعَالِمَ يَفْضُلُ الْعَابِدَ بِهَا لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ يَفْضُلُ الْعَابِدَ بِعَشْرِ دَرَجَاتٍ، فَهُوَ يَفْضُلُ الْأَدْنَى بِأَكْثَرَ مِنْهَا بِالضَّرُورَةِ، وَقَدْ فُرِضَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا يَفْضُلُهُ بِعَشْرِ دَرَجَاتٍ فَقَطْ، فَقَدْ يَكُونُ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْأَدْنَى أَكْثَرَ مِنْ فَضْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَفْضِيلَ الْعَالِمِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَ مَا ذَكَرْته، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُبَالَغَةُ، وَمَنْ جَوَّزَ رُجُوعَ الضَّمِيرِ إلَى الْأُمَّةِ مُطْلَقًا كَشَيْخِنَا لَمْ يَتَنَبَّهْ لِهَذَا الْمَعْنَى فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: وَعَرَّفَهُ الرَّازِيّ إلَخْ) اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الشَّارِحِ أَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ

الصفحة 39