كتاب نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (اسم الجزء: 1)

مَعَالِمَهُ، وَسَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ دَلَائِلَهُ، فَانْشَرَحَ بِهِ صُدُورُ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَانْزَاحَتْ بِهِ شُبُهَاتُ أَهْلِ الطُّغْيَانِ.
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ خُلَفَاءِ الدِّينِ وَحُلَفَاءِ الْيَقِينِ، مَصَابِيحِ الْأُمَمِ وَمَفَاتِيحِ الْكَرَمِ، وَكُنُوزِ الْعِلْمِ وَرُمُوزِ الْحِكَمِ، صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ بِدَوَامِ النَّعَمِ وَالْكَرَمِ.
(وَبَعْدُ) فَإِنَّ الْعُلُومَ وَإِنْ كَانَتْ تَتَعَاظَمُ شَرَفًا وَتَطْلُعُ فِي سَمَاءِ كَوْكَبِهَا شُرَفًا، وَيُنْفِقُ الْعَالِمُ مِنْ خَزَائِنِهَا وَكُلَّمَا زَادَ ازْدَادَ رُشْدًا
ـــــــــــــــــــــــــــــSقَوْلُهُ: مَعَالِمُهُ) أَيْ عَلَامَاتُهُ وَفِي الْمُخْتَارِ الْمَعْلَمُ الْأَثَرُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ انْتَهَى (قَوْلُهُ: فَانْشَرَحَ بِهِ) أَيْ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَطْفُ مُسَبَّبٍ عَلَى سَبَبٍ (قَوْلُهُ: وَانْزَاحَتْ بِهِ) أَيْ انْدَفَعَتْ وَهُوَ مُطَاوِعُ زَاحَ، تَقُولُ زُحْتُهُ فَانْزَاحَ بِمَعْنَى نَحَّيْته.
قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: زَاحَ الشَّيْءَ عَنْ مَوْضِعِهِ يَزُوحُ زَوْحًا مِنْ بَابِ قَالَ، وَيُزِيحُ زَيْحًا مِنْ بَابِ سَارَ تَنَحَّى، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ فَيُقَالُ زُحْته، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ أَزَحْته إزَاحَةً اهـ.
(قَوْلُهُ: خُلَفَاءِ الدِّينِ) أَيْ الَّذِينَ صَارُوا خُلَفَاءَ عَلَى الدِّينِ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ الَّذِينَ اسْتَخْلَفَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ اللَّهُ،
وَفِي الْمِصْبَاحِ: خَلَفْت فُلَانًا عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ خِلَافَةً صِرْت خَلِيفَتَهُ، وَخَلَفْته جِئْت بَعْدَهُ، وَالْخِلْفَةُ بِالْكَسْرِ اسْمٌ مِنْهُ كَالْقَعْدَةِ لِهَيْئَةِ الْقُعُودِ، وَاسْتَخْلَفْته جَعَلْته خَلِيفَةً، فَخَلِيفَةٌ يَكُونُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَبِمَعْنَى مَفْعُولٍ (قَوْلُهُ: وَحُلَفَاءِ الْيَقِينِ) يَحْتَمِلُ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا عَاهَدُوهُ وَوَفَّوْهُ بِعُهُودِهِمْ كَانُوا كَالْمُقْسِمِينَ بِأَيْمَانٍ وَوَفَّوْا بِهَا فَجَعَلَهُمْ حُلَفَاءَ وَأَضَافَهُمْ إلَى الْيَقِينِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ شَبَّهَهُمْ فِي انْقِيَادِهِمْ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَمِ مُخَالَفَتِهِمْ لَهُ بِالْمُتَحَالَفِينَ عَلَى أَمْرٍ مُتَيَقَّنٍ لَا يَتَخَلَّفُونَ عَنْهُ، فَتَكُونُ اسْتِعَارَةً تَصْرِيحِيَّةً تَبَعِيَّةً.
(قَوْلُهُ: وَكُنُوزِ الْعِلْمِ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَكُنُوزِ أَهْلِ الْحِكَمِ، وَعَلَى كُلٍّ فَالْمُرَادُ بِالْكَنْزِ هُنَا الْمَحَلُّ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ الْعِلْمُ وَفِي الْأَصْلِ الْمَالُ الْمَكْنُوزُ، فَهُوَ مَجَازٌ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمَحَلِّ بِاسْمِ الْحَالِّ فِيهِ، وَلَوْ عَبَّرَ بِالْمَعَادِنِ لَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّهَا جَمْعُ مَعْدَنٍ وَهُوَ الْمَكَانُ (قَوْلُهُ: وَرُمُوزِ الْحِكَمِ) أَيْ هُمْ رُمُوزٌ لِلْحِكَمِ لِاسْتِفَادَتِهَا وَأَخْذِهَا مِنْهُمْ، وَسَمَّاهُمْ رُمُوزًا؛ لِأَنَّهُمْ يُشِيرُونَ إلَيْهَا بِبَيَانِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَصَدَّوْا لِتَدْوِينِهَا، بَلْ كَانُوا يُجِيبُونَ عَمَّا سُئِلُوا عَنْهُ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ، وَالرَّمْزُ: الْإِشَارَةُ وَالْإِيمَاءُ بِالشَّفَتَيْنِ وَالْحَاجِبِ (قَوْلُهُ: تَتَعَاظَمُ شَرَفًا) أَيْ فِي الْمِقْدَارِ: أَيْ لَا يَعْظُمُ عِنْدَهَا شَيْءٌ، لَكِنَّ الْفِقْهَ أَشْرَفُهَا كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ فَلَا مِرْيَةَ إلَخْ (قَوْلُهُ: شَرَفًا) قَالَ فِي الْمُخْتَارِ: الشَّرَفُ بِفَتْحِ الشِّينِ وَالرَّاءِ: الْعُلُوُّ وَالْمَكَانُ الْعَالِي، ثُمَّ قَالَ: وَشُرْفَةُ الْقَصْرِ وَاحِدَةٌ الشُّرَفِ كَغُرْفَةٍ وَغُرَفٍ اهـ.
وَعَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُضْبَطَ قَوْلُهُ تَتَعَاظَمُ شَرَفًا بِالْفَتْحِ، وَقَوْلُهُ كَوَاكِبُهَا شُرَفًا بِضَمِّ الشِّينِ وَفَتْحِ الرَّاءِ؛ وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا وَإِنْ تَعَاظَمَتْ فِي عُلُوِّ الْمِقْدَارِ وَطَلَعَتْ أَمَاكِنَ الْكَوَاكِبِ الْمُرْتَفِعَةِ فَلَا مِرْيَةَ إلَخْ (قَوْلُهُ: وَكُلَّمَا زَادَ) أَيْ فِي الِاتِّفَاقِ (قَوْلُهُ: ازْدَادَ رُشْدًا) بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ وَفَتْحِهِمَا، وَعِبَارَةُ الْمُخْتَارِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQخِلَافُ الْمَذْهَبِ (قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْعُلُومَ وَإِنْ كَانَتْ إلَخْ) وَقَعَ مِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي خُطْبَةِ الْكَنْزِ لِلْحَنَفِيَّةِ وَلَفْظُهُ: وَهُوَ وَإِنْ خَلَا عَنْ الْعَوِيصَاتِ وَالْمُشْكِلَاتِ فَقَدْ تَحَلَّى بِمَسَائِلِ الْفَتَاوَى وَالْوَاقِعَاتِ.
قَالَ شَارِحُهُ مِسْكِينٌ، أَيْ لِمَنْ يَخْلُو وَإِنْ خَلَا عَنْ الْعَوِيصَاتِ فَقَدْ تَحَلَّى، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْفَاءُ لِلْجَزَاءِ وَتَكُونُ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ، وَإِنْ عَلَى أَصْلِهِ لِلشَّرْطِ إلَّا أَنَّهَا فِي اسْتِعْمَالِهَا الشَّائِعِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ؛ وَالْمَعْنَى: وَإِنْ تَحَقَّقَ وَتَقَرَّرَ أَنَّهُ خَلَا عَنْ الْعَوِيصَاتِ وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ إفَادَةِ مَعْنَى الشَّرْطِ فَتُجْعَلُ لِلْوَصْلِ وَتُجْعَلُ الْوَاوُ لِلْحَالِ مَعَ التَّكَلُّفِ فِي ذِي الْحَالِ، وَأَيْضًا الْفَاءُ لَا تَدْخُلُ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَإِ إلَّا فِي الْمَوْصُولِ بِالْفِعْلِ وَالظَّرْفِ وَالنَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِهِمَا انْتَهَى.
وَمِثْلُهُ يُقَالُ فِيمَا هُنَا فَيُقَدَّرُ خَبَرٌ مُنَاسِبٌ، وَلَك أَنْ تَلْتَزِمَ الْوَجْهَ الثَّانِيَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ الْمُجِيزِ لِاقْتِرَانِ الْفَاءِ بِالْخَبَرِ مُطْلَقًا، وَمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ الْمُجِيزِ لِمَجِيءِ الْحَالِ مِنْ الْمُبْتَدَإِ (قَوْلُهُ: وَتَطْلُعُ فِي سَمَاءِ كَوْكَبِهَا شَرَفًا) أَيْ فِي مَنْزِلَةِ الشَّرَفِ الْمَعْرُوفَةِ

الصفحة 6