كتاب حجة الله البالغة (اسم الجزء: 1)

قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من وجد من ذَلِك شَيْئا فَلْيقل آمَنت
بِاللَّه وَرَسُوله، وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فليستعذ بِاللَّه وليتفل عَن يسَاره " سره أَن الالتجاء إِلَى الله وتذكره وتقبيح حَال الشَّيَاطِين وإهانة أَمرهم يصرف وَجه النَّفس عَنْهُم، ويصد عَن قبُول أَثَرهم، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين اتَّقوا إِذا مسهم طائف من الشَّيْطَان تَذكرُوا فَإِذا هم مبصرون} .
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْتج آدم ومُوسَى عِنْد ربهما ".
أَقُول معنى قَوْله: عِنْد ربهما " أَن روح مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام انجذبت إِلَى حَظِيرَة الْقُدس، فوافت هُنَالك آدم.
وبطن هَذِه الْوَاقِعَة وسرها أَن الله فتح على مُوسَى علما على لِسَان آدم عَلَيْهِمَا السَّلَام شبه مَا يرى النَّائِم فِي مَنَامه ملكا أَو رجلا من الصَّالِحين يسْأَله، ويراجعه الْكَلَام حَتَّى يفِيء عَنهُ بِعلم لم يكن عِنْده. وَهَهُنَا علم دَقِيق كَانَ قد خَفِي على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى كشفه الله عَلَيْهِ فِي هَذِه الْوَاقِعَة. وَهُوَ أَنه اجْتمع فِي قصَّة آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَجْهَان.
أَحدهمَا مِمَّا يَلِي خويصة نفس آدم عَلَيْهِ السَّلَام، وَهُوَ أَنه كَانَ مَا لم يَأْكُل الشَّجَرَة لَا يظمأ وَلَا يضحى، وَلَا يجوع وَلَا يعرى - وَكَانَ بِمَنْزِلَة الْمَلَائِكَة فَلَمَّا أكل غلبت البهيمية، وكمنت الملكية، فَلَا جرم أَن أكل الشَّجَرَة إِثْم يجب الاسْتِغْفَار عَنهُ.
وَثَانِيهمَا مِمَّا يَلِي التَّدْبِير الْكُلِّي الَّذِي قَصده الله تَعَالَى فِي خلق الْعَالم
وأوحاه إِلَى الْمَلَائِكَة قبل أَن يخلق آدم وَهُوَ أَن الله تَعَالَى أَرَادَ بخلقه أَن يكون نوع الْإِنْسَان خَليفَة فِي الأَرْض يُذنب، ويستغفر، فَيغْفر لَهُ، ويتحقق فيهم التَّكْلِيف وَبعث الرُّسُل وَالثَّوَاب وَالْعَذَاب ومراتب الْكَمَال والضلال، وَهَذِه نشأة عَظِيمَة على حدتها، وَكَانَ أكل الشَّجَرَة حسب مُرَاد الْحق ووفق حكمته، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَو لم تذنبوا لذهب الله بكم وَجَاء بِقوم آخَرين يذنبون وَيَسْتَغْفِرُونَ فَيغْفر لَهُم " وَكَانَ آدم أول مَا غلبت عَلَيْهِ بهيميته استتر عَلَيْهِ الْعلم الثَّانِي، وأحاط بِهِ الْوَجْه الأول، وَعُوتِبَ عتابا شَدِيدا فِي نَفسه، ثمَّ سرى عَنهُ، ولمع عَلَيْهِ بارق من الْعلم الثَّانِي، ثمَّ لما انْتقل إِلَى حَظِيرَة الْقُدس علم الْحَال أصرح مَا يكون، وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يظنّ مَا كَانَ يظنّ آدم عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى فتح الله عَلَيْهِ الْعلم الثَّانِي، وَقد ذكرنَا أَن الوقائع الخارجية يكون لَهَا تَعْبِير كتعبير الْمَنَام وَأَن الْأَمر وَالنَّهْي لَا يكونَانِ جزَافا، بل لَهما استعداد يوجبهما.

الصفحة 283