كتاب حجة الله البالغة (اسم الجزء: 1)

{وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا}
وَوقت الشُّرُوع فِي النّوم ليَكُون كَفَّارَة لما مضى وتصقيلا للصدأ، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صلى الْعشَاء فِي جمَاعَة كَانَ كقيام نصف اللَّيْل الأول، وَمن صلى الْعشَاء وَالْفَجْر فِي جمَاعَة كَانَ كقيام ليله " وَوقت اشتغالهم كالضحى ليَكُون مهونا للانهماك فِي الدُّنْيَا وترياقا لَهُ، غير أَن هَذَا لَا يجوز أَن يُخَاطب بِهِ النَّاس جَمِيعًا لأَنهم حِينَئِذٍ بَين أَمريْن: إِمَّا أَن يتْركُوا هَذَا أَو ذَاك - وَهَذَا أصل آخر.
وَأَيْضًا لَا أَحَق فِي بَاب تعْيين الْأَوْقَات من أَن يذهب إِلَى الْمَأْثُور من سنَن الْأَنْبِيَاء المقربين من قبل، فَإِنَّهُ كالمنبه للنَّفس على أَدَاء الطَّاعَة تَنْبِيها عَظِيما والمهيج لَهَا على مُنَافَسَة الْقَوْم، والباعث على أَن يكون للصالحين فيهم ذكر جميل، وَهُوَ قَول جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: " هَذَا وَقت الْأَنْبِيَاء من قبلك ".
لَا يُقَال ورد فِي حَدِيث معَاذ فِي الْعشَاء " وَلم يصلها أحد قبلكُمْ " لِأَن الحَدِيث رَوَاهُ جمَاعَة، فَقَالَ بَعضهم: أَن النَّاس صلوا ورقدوا، وَقَالَ بَعضهم وَلَا يُصليهَا أحد إِلَّا بِالْمَدِينَةِ وَنَحْو ذَلِك، فَالظَّاهِر أَنه من قبل الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى وَهَذَا أصل آخر.
وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي تعْيين الْأَوْقَات سر عميق من وُجُوه كَثِيرَة، فتمثل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَصلى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعلمه الْأَوْقَات، وَلما ذكرنَا طهر وَجه مَشْرُوعِيَّة الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي الْجُمْلَة، وَسبب وجود التَّهَجُّد وَالضُّحَى على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأنبياء على مَا ذكرُوا وَكَونهَا نَافِلَة للنَّاس وَسبب تَأْكِيد أَدَاء الصَّلَوَات على أَوْقَاتهَا، وَالله أعلم.
وَلما كَانَ فِي التَّكْلِيف بِأَن يُصَلِّي جَمِيع النَّاس فِي سَاعَة وَاحِدَة بِعَينهَا لَا يتقدمون، وَلَا يتأخرون غَايَة الْحَرج - وسع فِي الْأَوْقَات توسعه مَا.
وَلما كَانَ لَا يصلح للتشريع إِلَّا المظنات الظَّاهِرَة عِنْد الْعَرَب غير الْخَفِيفَة على الأداني والأقاصي - جعل لأوائل الْأَوْقَات وأواخرها حدودا مضبوطة محسوسة.
ولتزاحم هَذِه الْأَسْبَاب حصل للصلوات أَرْبَعَة أَوْقَات: وَقت الِاخْتِيَار وَهُوَ الْوَقْت الَّذِي يجوز أَن يُصَلِّي فِيهِ من غير كراهيه، والعمدة فِيهِ حديثان حَدِيث جِبْرِيل فَإِنَّهُ صلى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَيْنِ، وَحَدِيث بُرَيْدَة فَفِيهِ أَنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجَاب السَّائِل عَنْهَا بِأَن صلى يَوْمَيْنِ، والمفسر مِنْهُمَا قَاض على الْمُبْهم، وَمَا اخْتلف يتبع فِي حَدِيث بُرَيْدَة لِأَنَّهُ مدنِي مُتَأَخّر، وَالْأول مكي مُتَقَدم، وَإِنَّمَا يتبع الآخر فالآخر وَذَلِكَ أَن آخر وَقت الْمغرب هُوَ مَا قبل أَن يغيب الشَّفق،

الصفحة 319