كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 1)
صفحة رقم 55
بسلطانه العلي أجراها باسم الربوبية وهو اسم أقرب مثالاً على النفوس ، لأنها تشاهد آياته بمعنى التربية والربابة ، ومع ذلك أيضاً فذكر اسم الله في دعوة المرسلين غير متبع ولا موصوف بآيات الإلهية ، ولو ذكر لما قرب مثالاً علمها فهي كالشمس والقمر ونحو ذلك ، وذكر تعالى الربوبية في هذه الدعوة متبعة بآياتها الظاهرة التي لا تفوت العقل والحس ولا يمكن إنكارها ، ووجه بعد النفوس عن الانقياد عند الدعوة باسم الله أن آيات الربوبية التي يسهل عليها الانقياد من جهتها التي بيسير منها تنقاد للملوك وأولي الإحسان ، لأنها جبلت على حب من أحسن إليها تبقى عند الدعوة باسم الله بمعزل عن الشعور بإضافتها لاسم الله ويحار العقل في المتوجه له بالعبادة ، وتضيف النفوس الغافلة آيات الربوبية إلى ما تشاهده من أقرب الأسباب في العوائد ، كالفصول التي نيطت الموالد والأقوات بها في مقتضى حكمة الله سبحانه أو إلى أسباب هذه الأسباب كالنجوم ونحو ذلك ، فلا يلتئم للمدعو حال قوامه بعبادته فيكثر التوقف والإباء ، واقتضى اليسر الذي أراد الله بهذه الأمة ذكر الربوبية منوطاً بآياتها - انتهى .
ولما كانت العبادة المختلّة بشرك أو غيره ساقطة والازدياد من الصحيحة والاستمرار عليها عبادة جديدة يحسن الأمر بها خاطب الفريقين فقال : ( اعبدوا ربكم ) أي الذي لا رب لكم غيره عبادة هي بحيث يقبلها الغني .
ثم وصفه بما أشارت إليه صفة الرب من الإحسان تنبيهاً على وجوده ووجوب العبادة له بوجوب شكر المنعم فقال : ( الذي خلقكم ( ، قا لالحرالي : ( الذي ( اسم مبهم مدلوله ذات موصوف بوصف يعقب به وهي الصلة اللازمة له ، والخلق تقدير أمشاج ما يراد إظهاره بعد الامتزاج والتركيب صورة ) والذين من قبلكم ( القبل ما إذا عاد المتوجه إلى مبدأ وجهته أقبل عليه - انتهى .
ثم بين نتيجتها بقوله : ( لعلكم تتقون ) أي لتكون حالكم بعبادته لأنها كلها محاسن ولا حسن في غيرها حال من ترجى له التقوى ، وهي اجتناب القبيح من خوف الله ، وسيأتي في قوله : ( لعلكم تشكرون ( ما ينفع هنا .
وقال الحرالي : لعل كلمة ترج لما تقدم سببه ، وبدأ من آيات الربوبية بذكر الخلق لأنه في ذواتهم ، ووصل ذلك بخلق من قبلهم حتى لا يستندوا بخلقهم إلى من قبلهم وترجى لهم التقوى لعبادتهم ربهم من حيث نظرهم إلى خلقهم وتقدير أمشاجهم ، لأنهم إذا أسندوا خلقهم لربهم كان أحق أن يسندوا إليه ثمرة ذلك من صفاتهم وافعالهم فيتوقفون عن الاستغناء بأنفسهم فينشأ لهم .
بذلك تقوى - انتهى .
وما أحسن الأمر بالعبادة حال الاستدلال على استحقاقها بخلق الأولين والآخرين