غير ذلك من الآثار التي ذكروها في هذا الباب. وأما احتجاجهم من جهة النظر فإنهم قالوا: قد نص القرآن أن علة التحريم في الخمر إنما هي الصد عن ذكر الله ووقوع العداوة والبغضاء كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} وهذه العلة توجد في القدر المسكر فيما دون ذلك فوجب أن يكون ذلك القدر هو الحرام إلا ما انعقد عليه الإجماع من تحريم قليل الخمر وكثيرها قالوا: وهذا النوع من القياس يلحق بالنص وهو القياس الذي ينبه الشرع على العلة فيه. وقال المتأخرون من أهل النظر: حجة الحجازيين من أقوى وحجة العراقيين من طريق القياس أظهر. وإذا كان هذا كما قالوا فيرجع الخلاف إلى اختلافهم في تغليب الأثر على القياس أو تغليب القياس على الأثر إذا تعارضا وهي مسألة مختلف فيها لكن الحق أن الأثر إذا كان نصا ثابتا فالواجب أن يغلب على القياس. وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل فهنا يتردد النظر هل يجمع بينهما بأن يتأول اللفظ أو يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس؟ وذلك مختلف بحسب قوة لفظ من الألفاظ الظاهرة وقوة قياس من القياسات التي تقابلها ولا يدرك الفرق بينهما إلا بالذوق العقلي كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون وربما كان الذوقان على التساوي ولذلك كثر الاختلاف في هذا النوع حتى قال كثير من الناس: كل مجتهد مصيب .. قال القاضي: والذي يظهر لي والله أعلم أن قوله عليه الصلاة والسلام: "كل مسكر حرام" وإن كان يحتمل أن يراد به القدر المسكر لا الجنس المسكر فإن ظهوره في تعليق التحريم بالجنس أغلب على الظن من تعليقه بالقدر لمكان معارضة ذلك القياس له على ما تأوله الكوفيون فإنه لا يبعد أن يحرم الشارع قليل المسكر وكثيره سدا للذريعة وتغليظا مع أن الضرر إنما يوجد في الكثير وقد ثبت من حال الشرع بالإجماع أنه اعتبر في الخمر الجنس دون القدر الواجب فوجب كل ما وجدت فيه علة الخمر أن يلحق بالخمر وأن يكون على من زعم وجود الفرق إقامة الدليل على ذلك هذا إن لم يسلموا لنا صحة قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" فإنهم إن سلموه لم يجدوا انفكاكا فإنه