كتاب الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني (اسم الجزء: 1)

إِلَّا وَهُوَ يَسْتَشْهِدُ عَلَى بِدْعَتِهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَيُنْزِلُهُ عَلَى مَا وَافَقَ عَقْلَهُ وَشَهْوَتَهُ، وَهُوَ أَمْرٌ ثَابِتٌ فِي الْحِكْمَةِ الْأَزَلِيَّةِ الَّتِي لَا مَرَدَّ لَهَا، قَالَ تَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} (¬1)، وَقَالَ: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬2)، لَكِنْ إِنَّمَا يَنْسَاقُ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَشَابِهُ مِنْهَا لَا الْوَاضِحُ، وَالْقَلِيلُ مِنْهَا لَا الْكَثِيرُ (¬3)، وَهُوَ أَدَلُّ الدَّلِيلِ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْمُعْظَمَ وَالْجُمْهُورَ مِنَ الْأَدِلَّةِ إِذَا دَلَّ عَلَى أمر بظاهره فهو الحق، فإن جاء مَا (¬4) ظَاهِرُهُ الْخِلَافُ فَهُوَ النَّادِرُ وَالْقَلِيلُ، فَكَانَ من حق الناظر (¬5) رَدُّ الْقَلِيلِ إِلَى الْكَثِيرِ، وَالْمُتَشَابِهِ إِلَى الْوَاضِحِ، غَيْرَ أَنَّ الْهَوَى زَاغَ بِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ زَيْغَهُ، فَهُوَ فِي تِيهٍ، مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُبْتَدِعِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ الْهِدَايَةَ إِلَى الْحَقِّ أَوَّلَ مَطَالِبِهِ، وَأَخَّرَ هَوَاهُ ـ إِنْ كَانَ فَجَعَلَهُ بِالتَّبَعِ، فَوَجَدَ جمهور الأدلة ومعظم الكتاب واضحاً في المطلب (¬6) الذي بحث عنه، فركب (¬7) الجادة إليه (¬8)، وَمَا شَذَّ لَهُ عَنْ (¬9) ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكِلَهُ إِلَى عَالِمِهِ (¬10)، وَلَا يَتَكَلَّفُ الْبَحْثَ عَنْ تَأْوِيلِهِ.
وَفَيْصَلُ الْقَضِيَّةِ بَيْنَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (¬11)، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى مَنْ هَذِهِ حَالُهُ مُبْتَدِعًا وَلَا ضَالًّا، وَإِنْ حَصَلَ فِي الْخِلَافِ أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ.
أَمَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُبْتَدِعٍ فَلِأَنَّهُ اتَّبَعَ الْأَدِلَّةَ مُلْقِيًا إِلَيْهَا حِكْمَةَ (¬12) الِانْقِيَادِ، بَاسِطًا يَدَ الِافْتِقَارِ، مُؤَخِّرًا هَوَاهُ، وَمُقَدِّمًا لِأَمْرِ الله.
¬_________
(¬1) سورة البقرة: آية (26).
(¬2) سورة المدثر: آية (31).
(¬3) في (ط): "كالكثير". وهو خطأ.
(¬4) في (ت): "ما على ظاهره ... "، وفي (ط): "على ما ظاهره ... ".
(¬5) في (ط): "الظاهر"، وهو خطأ.
(¬6) في (م) و (ط): "الطلب".
(¬7) في (ط): "فوجد".
(¬8) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(¬9) في (ت): "من".
(¬10) في (غ): "عامله".
(¬11) سورة آل عمران: آية (7).
(¬12) لعل مراد المؤلف أحد معاني الكلمة لغة. قال في الصحاح: وحكمة اللجام: ما أحاط بالحنك. تقول منه حكمت الدابة حكماً، وأحكمتها أيضاً. الصحاح (5/ 1902). فلعل المؤلف استعار هذا المعنى.

الصفحة 235