كتاب الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني (اسم الجزء: 1)

وَقَدْ عَلِمْتَ أَيُّهَا النَّاظِرُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يَقْضِي بِهِ الْعَقْلُ يَكُونُ حَقًّا (¬1)، وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يَرْتَضُونَ الْيَوْمَ مَذْهَبًا، وَيَرْجِعُونَ عَنْهُ (¬2) غَدًا، (ثُمَّ يَصِيرُونَ بَعْدَ غَدٍ) (¬3) إِلَى رَأْيٍ ثَالِثٍ. وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا يَقْضِي بِهِ حَقًّا (¬4) لَكَفَى فِي إِصْلَاحِ مَعَاشِ الْخَلْقِ وَمَعَادِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِبَعْثَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ (السَّلَامُ فَائِدَةٌ، وَلَكَانَ (¬5) عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُعَدُّ (¬6)) (¬7) الرِّسَالَةُ (¬8) عَبَثًا لَا مَعْنَى لَهُ، وَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ، فَمَا (¬9) أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ.
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُمْ قَدَّمُوا أَهْوَاءَهُمْ عَلَى الشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ سُمُّوا ـ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَفِي إِشَارَةِ الْقُرْآنِ ـ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ (¬10)، وَذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْهَوَى عَلَى عُقُولِهِمْ وَاشْتِهَارِهِ فِيهِمْ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ بالمشتق إنما تطلق (¬11) إِطْلَاقَ اللَّقَبِ إِذَا غَلَبَ مَا اشْتُقَّتْ مِنْهُ عَلَى الْمُسَمَّى بِهَا، فَإِذًا تَأْثِيمُ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَى اتِّبَاعِ الرَّأْيِ، وهو اتباع الهوى المذكور آنفاً.
والرابع: أَنَّ كُلَّ رَاسِخٍ لَا يَبْتَدِعُ أَبَدًا، وَإِنَّمَا يقع الابتداع ممن لم يتمكن في (¬12) الْعِلْمِ الَّذِي ابْتَدَعَ فِيهِ، حَسْبَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الحديث (¬13)، ويأتي تقريره بحول الله (¬14).
¬_________
(¬1) تقدم الكلام على العقل وقصوره في بداية الباب الثاني (ص62 ـ 64).
وسيفرد المؤلف لهذا الموضوع فصلاً مستقلاً في الباب العاشر، حيث سيذكره كسبب من أسباب الابتداع (2/ 318 ـ 337).
(¬2) ساقطة من (غ) و (ر).
(¬3) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(¬4) مطموسة في (ت).
(¬5) في (غ): ولو كان.
(¬6) في (م): "يعد"، وفي (خ): "بعده"، وفي (غ): "بعد"، وفي (ر): "بعث".
(¬7) ما بين المعكوفين مطموس في (ت).
(¬8) في (غ) و (ر): الرسل.
(¬9) في (م): "مما".
(¬10) أما الحديث الذي سموا فيه بأهل الأهواء، فهو حديث عائشة وقد مر ذكره والحكم عليه (ص90)، وأما الآيات فقد تقدم ذكر المؤلف لها في الوجه الخامس من أوجه ذم البدع من جهة النظر (ص70 ـ 72).
(¬11) في (م) و (خ) و (ط): "يطلق".
(¬12) في (ط): "من".
(¬13) لعله يريد حديث عبد الله بن عمرو المتقدم: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ من الناس) إلى قوله: حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوساً جهالاً فسألوهم فأفتوهم فضلوا وأضلوا)، وقد تقدم في الباب الثاني (ص125).
(¬14) وذلك في الفصل الآتي (ص275)، وانظر بداية الباب الرابع أيضاً.

الصفحة 250