كتاب الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني (اسم الجزء: 1)

ممن يظهر دين النصرانية (ورأي اليعقوبية) (¬1)، وَكَانَ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ (¬2)، فَاسْتَحْضَرَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، مِنْ جُمْلَتِهَا: أَنَّهُ أَمَرَ فِي بَعْضِ الأيام ـ وقد أحضر مَجْلِسَهُ ـ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ لِيَسْأَلَهُ (¬3) عَنِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فقال: دليلي على صحتها وجودي إِيَّاهَا مُتَنَاقِضَةً مُتَنَافِيَةً، تَدْفَعُهَا الْعُقُولُ، وَتَنْفِرُ مِنْهَا (¬4) النُّفُوسُ، لِتَبَايُنِهَا وَتَضَادِّهَا، لَا نَظَرَ يُقَوِّيهَا، وَلَا جَدَلَ يُصَحِّحُهَا، وَلَا بُرْهَانَ يُعَضِّدُهَا مِنَ الْعَقْلِ والحس عند أهل التأمل فيها (¬5)، وَالْفَحْصِ عَنْهَا، وَرَأَيْتُ مَعَ ذَلِكَ أُمَمًا كَثِيرَةً، وَمُلُوكًا عَظِيمَةً، ذَوِي مَعْرِفَةٍ، وَحُسْنِ سِيَاسَةٍ، وَعُقُولٍ رَاجِحَةٍ، قَدِ انْقَادُوا إِلَيْهَا، وَتَدَيَّنُوا بِهَا، مَعَ مَا ذَكَرْتُ مِنْ تَنَاقُضِهَا فِي الْعَقْلِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوهَا، وَلَا تَدَيَّنُوا بِهَا، إِلَّا لدلائل (¬6) شاهدوها، وآيات علموها (¬7)، وَمُعْجِزَاتٍ عَرَفُوهَا، أَوْجَبَ انْقِيَادَهُمْ إِلَيْهَا، وَالتَّدَيُّنَ بِهَا.
فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: وَمَا (¬8) التَّضَادُّ الَّذِي فِيهَا؟ (¬9) فَقَالَ: وَهَلْ يُدْرَكُ ذَلِكَ أَوْ تُعْلَمُ غَايَتُهُ؟ مِنْهَا: قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الثَّلَاثَةَ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ ثَلَاثَةٌ، وَوَصْفُهُمْ لِلْأَقَانِيمِ وَالْجَوْهَرِ وَهُوَ الثَّالُوثِيُّ (¬10)، وَهَلِ الأقانيم في أنفسها قادرة عالمة أم
¬_________
(¬1) ما بين المعكوفين ـ أثبته من (غ) و (ر)، وهو ساقط من بقية النسخ.
(¬2) هو أبو العباس أحمد بن طولون التركي، صاحب مصر، أجاد حفظ القرآن، وطلب العلم، وتنقلت به الأحوال، وتأمر، وولي ثغور الشام، ثم إمرة دمشق، ثم ولي الديار المصرية، وكان بطلاً، شجاعاً، جواداً، من دهاة الملوك، وكان جيد الإسلام، معظماً لشعائر الله. توفي بمصر سنة 270هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 94)، الوافي بالوفيات (6/ 430)، النجوم الزاهرة (3/ 1 ـ 21).
(¬3) في (م): "يسأله"، والكلمة غير واضحة في (ت).
(¬4) كتبت مرتين في (ت)، وكتب في هامشها "عله فيها".
(¬5) في (م) و (ت) و (غ): "لها".
(¬6) في (غ) و (ر): بدلائل.
(¬7) مثبتة في (غ)، وساقطة من بقية النسخ.
(¬8) في (خ): "وأما".
(¬9) مطموسة في (ت).
(¬10) أراد النصارى قاتلهم الله أن يوفقوا بين عقيدتهم الشركية القائلة بثلاثة آلهة وهم الأب والابن وروح القدس، وبين ما في التوراة من نصوص التوحيد والنهي عن الشرك، فقالوا بأن الأب والابن وروح القدس أقانيم، وهي في نفس الوقت جوهر واحد وإله=

الصفحة 274