كتاب الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني (اسم الجزء: 1)

حسنة" و"من سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً" لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ مِنْ أَصْلٍ، لِأَنَّ كَوْنَهَا حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، لِأَنَّ التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ مُخْتَصٌّ بِالشَّرْعِ، لَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ (¬1). وَإِنَّمَا يَقُولُ بِهِ الْمُبْتَدِعَةُ، أَعْنِي التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ بِالْعَقْلِ، فَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ (¬2) السُّنَّةُ فِي الْحَدِيثِ إما حسنة بالشرع (¬3)، وإما قبيحة بالشرع، فلا تصدق (¬4) إِلَّا عَلَى مِثْلِ الصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ السُّنَنِ الْمَشْرُوعَةِ، وَتَبْقَى السُّنَّةُ السَّيِّئَةُ مُنَزَّلَةٌ عَلَى الْمَعَاصِي الَّتِي ثَبَتَ بِالشَّرْعِ كَوْنُهَا مَعَاصِيَ، كَالْقَتْلِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ آدَمَ، حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" (¬5)، وَعَلَى الْبِدَعِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ ذَمُّهَا، وَالنَّهْيُ عَنْهَا بِالشَّرْعِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا قوله: "ومن (¬6) ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً"، فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، لِأَنَّ سَبَبَ الْحَدِيثِ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَيْءٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ كَالْعُمُومَاتِ الْمُبْتَدَأَةِ التي لم يثبت (¬7) لَهَا أَسْبَابٌ.
وَيَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ قَوْلُهُ: "وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً" أَيْ مَنِ اخْتَرَعَهَا، وَشَمَلَ (¬8) مَا كَانَ مِنْهَا مُخْتَرَعًا ابْتِدَاءً مِنَ الْمَعَاصِي، كَالْقَتْلِ مِنْ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ، وَمَا كَانَ مُخْتَرَعًا بِحُكْمِ الْحَالِ، إِذْ (¬9) كَانَتْ قَبْلُ مُهْمَلَةً مُتَنَاسَاةً فَأَثَارَهَا عَمَلُ هَذَا الْعَامِلِ.
فَقَدْ عَادَ الْحَدِيثُ ـ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ـ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ جِهَةِ لَفْظِهِ، وَشَرْحِ الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ لَهُ.
وَإِنَّمَا يَبْقَى النَّظَرُ فِي قَوْلِهِ: "وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً"، وَأَنَّ تَقْيِيدَ
¬_________
(¬1) تقدم التعليق على مسألة التحسين والتقبيح (ص213).
(¬2) في (م): "يكون".
(¬3) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "في الشرع".
(¬4) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "يصدق".
(¬5) تقدم تخريج الحديث (ص230).
(¬6) في (خ) و (ط): "من" بدون الواو.
(¬7) في (خ) و (ط): "تثبت".
(¬8) في (غ): "ويشمل".
(¬9) في (خ) و (ت): "إذا".

الصفحة 315