كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)

(تَكِسب) بفتح التاء وضمها أيضًا، والأول أفصح، وحينئذٍ يتعدى إلى مفعولٍ واحد، وعلى الثاني إلى مفعولين، أي وتَكْسِبُ الفقيرَ المعدومَ، أي المال.
(تَحْمِل الكَلَّ) أي الغرمات. وقولها: (وتُعين على نوائب الحق) كلمة جامعة لما تقدم وما لم يتقدم. كان بنو هاشم قد اشتهروا بهذه الأوصاف، ولذا قال لهم أبو طالب في قصيدته: يا قريش، إنما تقاطعون أُناسًا بلغ مواساتهم إلى بكر بن وائل.
(ابنَ عَمّ) فيه تَجَوُّز، لأنهم كانوا يتوسَّعون في بيان الأنساب.
(العبراني) سُمِّي به لأن إبراهيم عليه السلام كان اختاره بعد عبوره من العراق إلى الشام. وفي نُسخة: «العربي» وهما شعبتان من أصل واحد، فلعله كان يكتب العربي أيضًا، وكذا السُّرياني منسوب إلى السريا وهو الشام. وبالجملة كان لسان اليهود العبراني، والتوراة والإنجيل كلاهما كانا بالعبري. أما التوراة العبرية فتوجد اليوم أيضًا، ولا يوجد أصل الإنجيل العبري. نعم، توجد تراجمه مع اختلاف فاشٍ بينها، وقد أقرُّوا أنه ليس من إملاء عيسى عليه السلام، ولكن جُمِع بعده بسنين. وجَمَعَ ملك من القسطنطينية نُسخة منه وسمّاها: سبعينية، وجمع فيها عقائد النصارى. ورأيت شارحًا من شرّاح الإنجيل يقول: إني كتبت هذا الشرح بعد مطالعة تسع مئة شرحًا.
(النَّاموس) أي مُبلِّغ الخير، وهو ضِدُّ الجاسوس. والآن يستعمل بمعنى القانون. يقال: نواميس النور، أي قوانيها. (أنزل الله على موسى عليه السلام) وهذا كما في القرآن: {إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)} [المزمل: 15] وإنما أحال على موسى عليه السلام مع كونه نصرانيًا، لأن الشريعة الجامعة عندهم هي شريعته. أما الإنجيل فقالوا: إنه من تتمته. وإنما نزل عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام للتزكية فقط. قلت: وهو باطل بنص القرآن، فإنه صريح في أنه نَسَخَ بعضًا من التوراة، فقال تعالى: {وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]. وكذلك يوم عيدهم، كان الأحد بدل السبت. وكذلك ليس في الإنجيل الختنة. ثم إن الخنزير كان حرامًا في التوراة، والنصارى يُنْكِرُون حرمته.
قلتُ: وليس في الإنجيل حِلُّ الخنزير أصلًا، بل هو حرام في شريعة عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام أيضًا. ولذا يقتله بعد نزوله. وكان قَتَلَه عند ذهابه إلى بيت المقدس أيضًا، فكيف قالوا بِحِلِّهِ؟ {إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ} [ص: 7]. والوجه فيه: أن ما حُرِّم في التوراة هو كل ذي ظُفُر، كما قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} ... إلخ [الأنعام: 146]، فاختلفوا في تفسيره فجعله اليهود من ذي ظفر، بخلاف النصارى فأحلوه، وغلِطوا في ذلك قطعًا، كما علمت أن عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام قَتَلَه حين ذهب إلى بيت المقدس. وسيقتله بعد النزول أيضًا. فالحاصل: أنه أيضًا نبيٌ مرسلٌ ذو شريعةٍ، ولكنها كانت شريعة كالتتمة للتوراة. ثم في بعض لفظه «ناموس عيسى» أيضًا وقد وجهه الحافظ، فراجعه.
(يا ليتني فيها جَذَعًا) كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدَّعوة إلى الإسلام شابًا، ليكون أمكن لنصره. وبهذا تبين سِرُّ وصفه بكونه كان: «شيخًا قد عَمِيَ». قال الحافظ: ويظهر لي أن

الصفحة 105