كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)
الشريعة كانت تنزلُ وتزيدُ يومًا فيومًا. أما إذا كملت الشريعة وتمّ الدين ولم يبق احتمالٌ للنسخ والتبديل، استحالت الزيادة فيها، فلا زيادة ولا نقصان في الإيمان بعد زمنه صلى الله عليه وسلّم واستفدت منه أن الإيمان عند الإمام رحمه الله تعالى إرادةٌ على إطاعة النبي صلى الله عليه وسلّم بجميع ما جاء به. وتلك الإرادة تنسحِبُ على جميع الشريعة، بحيث لا يشذُ عنها شاذ. فمعنى قوله: لا يزيد ولا ينقص أن يدخل جميعُ المؤمن به تحتَ الالتزام، لا أنه يلتزم بعضًا دون بعض آخر.
فإذا كان الإيمان اسمًا لالتزام الجميع بحيث لا يزاد عليه شيء ولا ينقص منه شيء فكيف يزيد الإيمان وينقص بهذا المعنى؟ فالنفي بالحقيقة راجعٌ إلى المؤمن به دون الإيمان. وإذن معنى قولهم: يزيد وينقص أي الإيمان بنفسه. ومعنى قوله: لا يزيد ولا ينقص أي باعتبار المؤمن به. وظاهر أنه لا تفاوت فيه بين إيمان أبي بكر رضي الله تعالى عنه وبين إيمان أدنى مؤمن من أمته صلى الله عليه وسلّم لأن إيمان أدنى مؤمن يشتملُ على جميع الأشياء التي يشتملُ عليها إيمان أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فكما أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه التزم الإتيان بجميع الشريعة، كذلك أدنى مؤمنٌ من الأمة أيضًا التزم بجميعها، فلا فرق في هذا المعنى. إنما الفرق في الخشية والتُّقى ومخالفة الهوى. فلو وزنت إيمانَه بهذا المعنى لترجح إيمانه، على جميع أمته.
ونظيره ما روى الترمذي عن عبد الله بن عمر وقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفي يديه كتابان، قال: «أتدرون ما هذان الكِتَابان؟» قلنا: لا يا رسول الله إلا أن تُخْبِرَنا فقال للذي في يده اليمنى: «هذا كتابٌ من رب العالمين فيه أسماءُ أهلِ الجنة، وأسماء آبائهم، وقبائِلِهم، ثم أجمل على آخِرِهم، فلا يُزَادُ فيهم ولا يُنْقَصُ منهم أبدًا» ... إلخ فكما أن نفي الزيادة والنقصان راجع فيه إلى من فيهما من أسماء أهل الجنة والنار، كذلك نفي الزيادة والنقصان عن الإيمان راجع باعتبار ما فيه من الأحكام، وهي المؤمن بها.
بقيت الصورة المثالية فهي زائدة وناقصة قطعًا.
وإذا سمعت أن الاختلافَ فيه اختلاف الأنظار فقط، فلننظر أن أي النظرين أنفع، فنقول: إن الإيمان إذا كان إسمًا للمجموع لم تتضح له مزية على الأعمال في التعبير. ويتوهم كون جميع أجزائه متساوية الأقدام. ولما كان الإيمانُ من أسنى المقاصد، وأبرِّ الأعمال، وشرطًا لسائرها وأساسها ودِعامتها، لا كما يُتوهم مما قاله أحمد رحمه الله تعالى: إنه معاقدة، جعلناه منفردًا عن الأعمال تامًا بنفسه، ومختَتَمًا بذاته، غيرُ منتظر إلى الأعمال، فلا يُخفف أمره، ولا تُحطّ رتبته، بجعله مركبًا مع غيره، فإن الأعلى لا يعدّ مع الأدنى، والأصل مع الفرع، والتابع مع المتبوع، فلا بد أن يُظْهِرَ حقيقته في نفسه أيضًا، ويرى مكانه ومنزلته. ولا يمكن إلا بجعله منفصلًا عن الأعمال، وإذا انفصل أصلُ الإيمان لعظمة أمره عن الأعمال، فلا يكون إلا بسيطًا.
فما قاله السلف أيضًا نظر صحيح. وما قاله الإمام الهمام أيضًا نظر صحيح. إلا أنّ كلامَ السلف يُبْنى على النظر الإجمالي وعَدِّ متعلقات الشيء والفروع مع الأصل. وكلام إمامنا يكشف عن الحقيقةِ ويعطي كل ذي حظ حظه، ويضعُ كل شيء مكانه. ولا خلاف في الحقيقة كما مر مرارًا. ثم بعد التفتيش عُلم أن هذه الأقوال لم تصدر عنهم في بيان العقيدة، وإنما هو من باب
الصفحة 139
544