كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)
جبريل: «أن تعبد الله كأنك تراه» فالعبادةُ التي هي من الجوارح، إذا حصلت بحيث يجد العبد ربه بمرأى عينيه، فهذه أمارة على اتحاد المسافتين، فإن تلك الرؤية من صفةِ القلب، فإذا اجتمعت تلك الرؤية مع خشوع الجوارح، فقد اتحدت المسافتان، وحينئذٍ صار إيمانُهُ عينَ إسلامه، وإسلامهُ عينَ إيمانِهِ، لا فرق بينهما، وإلا فالإسلام على جوارحه والإيمان في قلبه، لم يسر ذلك إلى باطنه، ولم يَرْق هذا إلى ظاهره، والله تعالى أعلم بالصواب.
وإذ قد فَرَغنا من بحث التصديق، وأنه علمٌ أو عمل، يزيد وينقُصُ، أو لا، وإن محله ماذا؟ إلى غير ذلك من المباحث، فالآن نذكر: معنى الضرورة، والتواتر وماذا أراد منهما المتكلمون، وماذا قصَّر فيه القاصرون، فنقول:
بحثٌ في معنى الضَّرورَةِ وما يَتَعلَّقُ بها
والمراد من الضرورة ما يُعرف كونُهَا من دين النبي صلى الله عليه وسلّم بلا دليل. بأن تواتر عنه واستفاض، حتى وصل إلى دائرة العوامّ وعلمَهُ الكوافّ منهم، لا أن كلًا منهم يعلمه، وإن لم يَرْفَع لتعليم الدِّينِ رأسًا، فإن جهلَه لعدمِ رغبتِهِ في تعليم الدين، وعلمته العامَّة، فهو ضروريٌّ كالواحدانية، والنبوة، وختمَهَا بخاتم الأنبياء، وانقطاعها بعده، والبعث والجَزَاء، وعذاب القبر سُمِّي ضروريًا لأن كلَّ واحدٍ يعلم أن هذا الأمر مثلًا من الدين. وإن كانت متوقفةً في نفسها على النظر والاستدلال، كالتوحيد، والنبوة، والبعث والجزاء، فإن كلَّ واحد منها وإن كان نظريًا في نفسه، لكن كونه من دينه صلى الله عليه وسلّم معلومٌ بالضرورة. وكذا لا يريدون بالضرورة أن الإتيانَ بها بالجوارح لا بد منه كما يُتَوهم.
فقد يكونُ استحبابُ شيءٍ وإباحته ضروريًا، يكفر جاحده، ولا يجبُ الإتيان به كالسِّواك، فالضرورةُ في الثبوت عن حضرة الرسالة وفي كونه من الدين، لا من حيث العمل، ولا من حيث الحكم المتضمن، لأن الحديث قد يكون متواترًا، ويُعلم ثبوته عنه صلى الله عليه وسلّم ضرورة، ويكون الحكم المتضمن فيه نظريًا من حيث العقل، كحديث عذاب القبر، ثبوته عنه صلى الله عليه وسلّم مستفيض، وفهم كيفية العذاب مشكل. وليُعلم أن الإيمانَ هو التصديق بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإن لم يكن متواترًا، والتزامُ أحكامِهِ، والتبرؤُ من كل دين سواه. ومن قَصَرَه من المتكلمين على الضروريات، فلأن موضوعَ فَنهِّم هو القطعي، لا أن المؤمنَ به هو القطعي فقط. نعم، التكفير عندهم إنما يكون بجحوده فقط. وأما الفقهاء فإنهم يبحثونَ عن أخبار الآحاد أيضًا، بخلاف المتكلمين. ولذا تراهُم يكَفِّرون بإنكار الأمر الظني أيضًا، وحينئذٍ كان الأنسب للفقهاء أن لا يعرِّفُوا الإيمانَ بالحدِّ المذكور، لأن قيدَ الضرورة يناسب موضوع المتكلمين دون الفقهاء. والمناسبُ لهم أن يقولوا: هو الاعتقاد بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلّم إن قطعًا فقطعًا، وإن ظنًا فظنًا.
والسرُ فيه أن الموجِبَ لكفر الرجل في نفسه، هو إنكار قطعيَ. وأما المُنَبِّهُ للمُفتي في تكفيره، فقد يكون حديثًا آحاديًا، فيُنبِّههُ على أن إنكارَ أمر كذا، كفر. ثم لا يكونُ ذلك الأمرُ في الواقع إلا قطعيًا، ومثاله: أن رجلًا عالمًا عدّ المتواترات والقطعيات وفهرسها، وذَهَلَ وغَفَلَ عن بعضها، فلم يُدْخله في ذلك الفهرس، فجاء واحد آخر ونبَّه على قطعيات أُخر، فأدخله بقول ذلك
الصفحة 143
544