كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)

نجمًا والأحكامُ تنزلُ تدريجًا، فإذا نَزَلَ حكمٌ وآمن به زاد إيمانه، وهذه الزيادةُ كانت في الحقيقة في المُؤْمَن به، فعبّر عنها بزيادة نفس الإيمان. وهذا الجواب نَسَبَه إلى الإمام الأعظم رحمه الله تعالى. قلتُ: وهذا إن صح عن الإمام رحمه الله تعالى فليس فيه أن أراد به توجيه تلك الآيات، بل المرادُ بيانُ معناها عنده، كما هو مَرويٌّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في «العمدة» و «الفتح» في تفسيرها.

قلتُ: ويتضحُ معناها كلَّ الاتضاح مما فصلها به ابن تيميّة رحمه الله تعالى، فقال ما حاصله: إن الناسَ في عهده صلى الله عليه وسلّم كانوا على نحوين، الأول: مَنْ إذا عُرض عليه الإسلام إجمالًا، آمن به، ثم إذا أتت عليه المصائب، والأعمالُ الشَّاقة، جعل يتأخرُ ويضيقُ صدرُهُ، ولا ينطلق لسانُهُ، نحو قول بعضهم: {لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرّ} ... إلخ [التوبة: 81] وبعضهم: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران: 167]، والآخر: من كان إذا آمنَ مرة ثَبَتَ عليه، ولم تزدْهُ الدوائر والخُطوب إلا شِدَّةً، وثباتًا، واستقامةً، وإيمانًا، وتسليمًا، فهذا الذي زاد إيمانًا مَعَ إيمانه، وسبقت له السوابق. فبضمِ هذا التقريرُ يتَّضحُ الجواب الأول، وحاصله حينئذٍ: أنهم عند نزول الأحكام تدريجًا كانوا يثبتُونَ على الإيمان، لا تعتريهم شبهةٌ ولا يُزَلْزَل إيمانهم من حمل المشاق، بل لا تزال قلوبُهم منشرحة، بخلاف الطائفة التي آمنت وجه النهار، فإذا نَزَلَ حكمٌ وشق عليها، كفرت في آخره فالبقاء على الإيمان مع تحمُّل الشدائد في سبيل الله هو مصداق الزيادة، والتأخر عنه هو المُسمّى بالنقصان.
{وزِدْنَاهُمْ هُدَى} ولما كان الهُدى، والإسلام، والإيمان، والدين، والتقوى، كلها شيئًا واحدًا عند المصنف رحمه الله تعالى، صحّ تمسكُهُ من زيادة الهدى على زيادة الإيمان، ومراده أن هذه كلَّها متحدةٌ مِصْدَاقًا، لا مفهومًا، كالمعنى والمفهوم والمدلول، فإنها متحدةٌ مصداقًا، لا أن كلَّها ألفاظٌ مترادفة، فإنه باطلٌ، لأن اتحاد المفهوم نادرٌ جدًا، وهو أضيقُ من اتحاد الذاتِ واتحاد الوجودِ كليهما. كما ترى في الإنسان وحدِّه التَّام، فإنهما متحدان ذاتًا ومتغايران مَفْهُومًا. أما اتحادُ الوجود فهو أوسع من اتحادِ الذات. والمفهوم كليهما، فإنه يمكنُ مع تغاير الذاتين، والمفهومين، كما قال ابن سينا في الجنس والفصل، فإنهما متغايران ذاتًا، مع الاتحاد وجودًا. واعتراض المُلاّ حسن ساقط، فليراجعه في موضعه، وما قاله الأشعري: إن الوجود عينُ الماهِيّة، لم يَرِد به المفهوم، بل الوجود الحقيقي.
{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى} يعني كانوا من قبل أيضًا على هدىً، ثم زاد الله عليه هدًى من عنده، كما مر في قوله: {إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} أي كانوا من قبل أيضًا على الإيمان، ثم زيدوا إيمانًا، وفيه احتراس لئلا يظنَّ أحدٌ أنهم إذا زِيْدُوا هدًى وإيمانًا، فلعلهم لم يكونوا على هدًى مِنْ قبلُ أيضًا.
ثم اعلم أن الاهتداء فِعْلهُم، والهدى كالثمرةِ له، والغرضُ منه أنهم فعلوا شيئًا واكتسبوه بالجِدِّ والاجتهاد، ثم زادهم الله شيئًا من جنس فعلِهِمْ، من عنده، مِنَّةً عليهم وكرامةً لهم. قال

الصفحة 147