كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)
الشيخ ناصر الدين بن المنير: وكذا يكونُ في الكفر أيضًا، فبعض الكفر يكون من فعلِهِ، وكسبِهِ ثم يزاد عليه كفر، نِقْمَةً عليه وسخطةً عنه، ليزداد كفرًا. ويمكنُ أن يكونَ هو المرادُ من قوله تعالى: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، أي كان مرضٌ في قلوبهم من كسبِهِم من قبل، فزِيْدُوا مرضًا على مرضهم (¬1).
{فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} ويُعلم منه أن الإيمان يُطلق على ثباتِ قدمٍ أيضًا {إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} الإيمان هو تبجيل الذات، والتسليم، هو التصديق بالقول، يعني إيمان ذات كاماننا أو تسليم بات كاماننا وتفصيله: أن متعلَّق الإيمان إن كان العقائد، فهو عبارةٌ عن التصديق. وإن كان متعلَّقه الذات، فهو عبارةٌ عن تبجيلها، أي اتباعها فيما يُؤمر ويُنهى.
(والحبُ في الله والبغض في الله من الإيمان) ولعل الحبُّ والبغض من الأحوال، لأنهما في الأكثر غيرُ اختياريين، ثم استدل المصنف من لفظ: «من»، فإنه للتبعيض، فدل على الجزئية. ونحن نقول: إنها للابتداء والاتصال كما في قوله صلى الله عليه وسلّم «أنت منِّي بمنزلةِ هارونَ من موسى»، فلا يدلُ على الجزئية، فالمعنى: أن الحبَّ في الله إنما يَبتدىءُ من الإيمان، ويتصل به، كما أن الشجرةَ تنبت من بَذْرها. وللبخاري رحمه الله تعالى إن يقول: إن ما نبت من الإيمانِ أيضًا إيمانٌ، وعلى هذا المِنْوال كلامُهُ، وكلامُنَا في الاستدلال. والجواب: هو يجعلُ «من» تبعيضية ونحن اتصالية وابتدائية. وكذا هو يجعل ثمراتِ، الإيمان ونورَه، إيمانًا، ونحن نجعله زائدًا عليه. فلا نُعيده في كل موضعٍ رَوْمًا للاختصار.
(وكتب عمر بن عبد العزيز) وهو وإن جعله مُركَّبًا، لكن لفظَ الاستكمال إنما يُستعمل في الأوصاف، بخلاف التمام، فإنه باعتبار الأجزاء، وحينئذٍ فلا حجةَ فيه. ثم قد مر معنا مرارًا أن للإيمان إطلاقين: الأول: على الإيمانِ الكاملِ المركبِ من الأعمال والأحوال، والثاني على المرتبة المحفوظة، وهو غير مركب، فالجزئية في كلماتهم راجعةٌ إلى المعنى الأول.
{وَلَكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} وهذه الآية أولى أن تكونَ حجةً لنا، من أن تكونَ علينا، لأنه لا شك في كمال إيمانه وبلوغه إلى أقصى مراتبه، فلا يمكن أن يكونَ طالبًا لزيادة في الإيمان، ولذا قال: {أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى} فالإيمان كان حاصلًا، وإنما طلب زيادةً في المعنى الزائد. ويحتاج البخاري في الاستدلال به إلى مقدمة زائدة لا يتم الاستدلال إلا بها، وهي: أن الاطمئنان أيضًا من مراتب الإيمان، وقد مر بعض الكلام على الآية.
¬__________
(¬1) قلت: وهو كما في قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)} [التوبة: 77] فكان في قلوبهم نفاقٌ من قبل من كسبهم، إلا أن نفاقَهم لما كان مع الله سبحانه -الذي لا يخفى عليه خافية- زِيد على نفاقهم نفاقٌ آخر عقابًا لهم. ومنه ينحل كثير من الآيات، وُيستغنى عما ذكروه من التوجيهات. وكتب القوم عنها مشحونة، فراجعها.
ومن ههنا سنح لي أن الحديثَ في آيات المنافق: "إذا وعد أخلَفَ، وإذا حدّث كَذَب، وإذا اؤتمن خان" مأخوذٌ منه. والله أعلم.
الصفحة 148
544