كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)
بعض الأجزاء، وبالكفر بفوات بعض آخر. وهذا نظيرُ اختلافهم في الصلاة في أصول الفقه. فقال الشافعية: إن الصلاة اسم للحقيقة المعهودة من التحريمة إلى التسليم، وتدخل فيها المستحبات، والسنن والأركان، ثم ينتفي اسم الصلاةِ بانتفاءِ بعض الأجزاء، وتبقى مع انتفاءِ بعضِها. وقال ابن الهُمَام في «التحرير»: إنها اسم للأركان فقط، والبقية مكمِّلات لها، وعلى هذا لو فات جزء منها - ولا يكون إلا ركنًا على هذا التقدير - يحكَمُ عليها بالبطلان بتًا.
أقول: والحقُ أن النزاعَ إن كان في أنه هل يمكن أن تكون حقيقةً مركبةً من أشياء ينتفي بعض أجزائها، ويبقى اسم الكل عليها أولًا؟ فالصواب مع الشافعية، فإنا نجدُ أشياءً كثيرة ينتفي بعض أجزائها، ومع هذا لا يرتفعُ اسم الكل عنها. وإن كان النزاعُ في أن المكمِّلات للشيء تكون أجزاءً لها دائمًا، فالصواب إلى الحنفية. إلا أن نَظَرَ الشافعية في الصلاة أصوب، وما ذهب إليه الشيخ ابن الهمام نظرٌ معقوليٌ، لأنه يُبنى على تجريدِ النَّظَرِ عن بعض أجزائه. وأهل العرف لا يفرقون بين جزء وجزء، بل يجعلون الشيءَ عبارة عن مجموعِ أجزائه، وإن كان بعضُهَا أدخلُ في تقوم الكلِّ من بعض آخر. وتظهر ثمرتُهُ عندهم عند الفوات، فيرون الشيء معدومًا بفوات بعضها، دون بعض، مع أنه لا فرقَ عندهم في كونه جزءُ الشيء.
والسرُ فيه: أن الشيءَ عندهم عبارة عما هو في الواقع، وليست في الواقع إلا الماهية مع عوارضها، والمجموعُ هو الذي يُعبَّر عنه بالشيء عندهم. أما حقيقته المعقولية، فهي مأخوذةٌ ومنتزعةٌ عنه، تحتاج إلى تجريدِها عن عوارضِها، فليست هي إلا نحو اعتبار، وهذا الاعتبارُ وإن كان واقعيًا، يُبتنى عليه بعض الأحكام، إلا أنه بمعزل عن أنظار أهل العرف. أما في الإيمان فالأقربُ فيه نظرُ الحنفية، لأن الأعمال بعطفِهَا على الإيمان جُعلت مكمِّلات له، فلا يكون الإيمانُ مجموعًا مركبًا، فجعلها أجزاء خلاف الظاهر، فالأظهر فيه ما اختاره الحنفية. نعم، يوجد إطلاق الإيمان على الأعمال في الأحاديث، بما لا يُحصَى، وهو على نظر الشافعية، فإما أن يقال: إن الأصلَ هو التصديقُ، والباقي تابع له، وهذا أوفقُ بالحنفية، أو يُلْتَزَمُ اختلافُ الإطلاق، فتارة أطلق على الجزء، وأخرى على الكل، وهذا أوفقُ بالشافعية.
(قوله تعالى: ليس البر) وإنما انتخبها من بين الآيات، إما لكونها أبسطُ في مراده، أو لأن النبي صلى الله عليه وسلّم تلاها في جوابِ رجلٍ سأله عن الإيمان، كما في «الفتح»: أن أبا ذر رحمه الله سأل النبي صلى الله عليه وسلّم عن الإيمان، فتلا عليه: «ليس البر» ... إلخ. ورجاله ثقات. قلت: وعندي قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (المؤمنون: 1) ... إلخ أقرب إلى مقصوده من قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ} ... إلخ، لأن في الآية الأولى تعديدٌ للأوصاف فقط، وليست جاريةً على الإيمان. وفي الآية الثانية الأوصافُ كلها جاريةٌ على الإيمان، لأن المعطوفاتِ كلها إما صفاتٌ مادحةٌ للمؤمنين، أو كاشفةٌ لهم، وعلى كلا التقديرين، كونُها من أمورهِ أظهر، بقي تفسيرُ قوله: {لَّيْسَ الْبِرَّ} ... إلخ ونكتَةُ التعبيرِ بنفي البرِّ عما هو من أبرِّ البر، كالتولِّي إلى القبلة فسأذكره في الصيام. وهو مهم جدًا. وقوله صلى الله عليه وسلّم «ليس من البرِّ الصيامُ في السفر» مع كونه من أعظم الطاعات من هذا الباب أيضًا فانتظره.
الصفحة 151
544