كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)

قوله: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ} [إبراهيم: 24] فالكلمةُ هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانُها اتِّباعُ الأمر، واجتناب النهي، وورقُها ما يَهُم به المؤمن من الخير، وثمرُهَا عملُ الطاعات، وحلاوة الثمر جَنْيُ الثمرة، وغايةُ كمالِهِ تناهي نضج الثمرة، وبه تظهر حلاوتها كذا في «الفتح». أقول: وإنما عبر بالحلاوة لأن أهلَ العرف يَعُدون المحبة من المذوقات، وهكذا يعبرون عنها في محاوراتهم، وفي القرآن: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] هذا واعلم أنه قد أشكل على القوم نسبة الذوق إلى اللباس في الآية الشريفة، فإن اللباس من الملبوسات، لا من المذوقات، ولم يُجبْ عنه أحد جوابًا شافيًا لطيفًا ليطمئن به القلب، وقد أجبتُ عنه وأثبتهُ في برنامجي ولا يسع الوقت ذكره (¬1).

10 - باب عَلاَمَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ
17 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ». طرفه 3784 - تحفة 962
لما فرغ من الحُبِّ مطلقًا وكان عامًا، أرْدَفَه بذكر محبة الطائفة، وانتخب منها الأنصار، وجعلها علامةُ الإيمان، فذكر أولًا: الإيمان، ثم حلاوتَه، ثم علامته ومأخذ الحديث، قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَانَ} [الحشر: 9] وفي الآية استعارتان عند علماء البيان: الأولى: في الفعل استعارة تبعية، والثانية: في الإيمان استعارة أصلية. وعند النُّحاة هي من باب - علفتها
¬__________
(¬1) وتلك المناظرة طويلة وأصلُ المناظرة في مسألة تقديم الكفارة على الحنث. وهاك بعض عبارات منها تتعلق بموضوعنا. قال الطَّالقَاني رحمه الله تعالى: ويدل على ذلك أن الكفارةَ وضعت لتغطية المآثم، وتكفير الذنوب، واسمها يدل على ذلك، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحدودُ كفاراتٌ لأَهلِها" وإنما سماها كفارة لأنها تُكفِّر الذنوب وتغطيها ... إلخ، ثم قال في ذيل كلامه على ص 184 والكفارةُ وجبت لتكفير الذنب؛ وتغطية الإثم، ثم قال على وأما الدليل الثالث الذي ذكرته من كون الكفارة موضوعة لتكفير الذنب فصحيح ... إلخ، ثم قال في تلك الصفحة: ولهذا قال تعالى في قتل الخطأ: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ}، وهذا يدلُ على أن كفارةَ قتلِ الخطأ على وجه التطهير والتوبة. انتهى. فتلك عباراتٌ تترى تُنادي بأعلى نداء: أن الحدود كفارات لأهلها، ولهذا تردد الشيخ رحمه الله تعالى في مذهب الحنفية، ثم الذي قال بكونها زواجر لم ينسبه إلى الإمام الأعظم رحمه الله تعالى، فإن كان ذلك لأنه لم يُنقل عن الإمام الأعظم، فظاهر أنه لا يكونُ مذهبًا، وإن كان الإغماض لمجرد تساهل، فأمرٌ آخر.
وبالجملة: كون الحدود زواجر مذهبًا للإمام محل تردد عند الشيخ رحمه الله تعالى، وذلك للاختلاف في النقول.
قال الشيخ رحمه الله تعالى في سبب انعقاد تلك المناظرة: أن القاضي أبا الطيب الطبري والقاضي أبا الحسن الطَّالقَاني حضرا مرة في جنازة، فاشتاق الناس أن تجريَ بينهما مناظرة، ليستفيدوا من علومهما وكان بينهم القُدُوري وأبو إسحاق الشافعي، فأبدوا بحاجتهم إليهما، ولكنهما أشارا إلى القاضيين، فجرت المناظرةُ كما سردها في الطبقات. والناظرُ يتعجب من أبحاثهما، فإنهما تكلما في المسألة بدون أهبة ولا سابقية خبر، ثم أفاضا بحورَ العلوم ودررَ المعاني، فلله دَرُّهما.

الصفحة 159