كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)
ليست بكفارة عندنا وفي «رد المحتار» في الجنايات، من كتاب الحج عن «ملتقط الفتاوى» أنه لو جنى رجلٌ في الحج، وأدى الجزاءَ سقطَ عنه الإثم، بشرط أن لا يعتاد، فإن اعتاد بقي الإثم، وكذا صرح النسفي في «التيسير» من أنه لو أقيم عليه الحد ثم انزجر يكون الحدُّ كفارةٌ له، وإلا لا وفي الصيام من «الهداية» أيضًا إشارة إلى أن الكفارة ساترة، والكفارةُ والحدودُ من باب واحد. وفي التعزير من «البدائع» أيضًا تصريحٌ بأن الحدود كفارات.
وتكلم الطحاوي على مثل هذا الحديث في «مشكل الآثار» ولم يتكلم حَرْفًا بالخلاف، وكذا بحث العيني رحمه الله تعالى بحثًا، وسكت عن عدم كونها كفارات. وأقدمُ النقولِ فيه ما في الطبقات الشافعية من مناظرة الطَّالْقَاني الحنفي مع أبي الطيب وصرح فيها: أن الحدود كفارات، وهذا الطالقاني من علماء المئة الرابعة، تلميذ للقُدُوري. فلعل ما في كتب الأصول يُبنى على المسامحة، فالاختلاف إنما كان في الأنظار، فجعلوه اختلافًا في المسألة، فنظرَ الحنفية أنها نزلت للزجر، وإن اشتملت على الستر أيضًا، ونظر الشافعية أنها للستر بالذات، وإن حصل منها الزجر أيضًا. قلت: إن كان الأمرُ كما علمت، فالأصوبُ نظر الحنفية، وإليه يرشد القرآن، وغير واحد من الأحاديث، كما لا يخفى، ثم إنهم لما قرروا الخلاف ومشى عليه الشارحون أيضًا، وإن كان بحثُ الحافظين في هذا المقام كالبحث العلمي والتفتيش المقامي، لا كالانتصار للمذهب، لكنه مع ذلك اشتهر الخلاف، حتى نقل في كتب الأصول أيضًا.
فاعلم: أن هذا الحديث وإن دل على كون الحدود كفارات، لكن يعارضُهُ ما رواه الحاكم وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لا أدري الحدود كفارات أم لا؟» وادّعى الحافظ رحمه الله تعالى أن حديث الحاكم متقدم، وحديث الباب متأخر، وكأن النبي صلى الله عليه وسلّم توقف في أول أمره، ثم جزم بكونها كفارات، ويرد عليه أن حديث عُبادة كيف يكون متأخرًا مع أن بيعة العقبة إنما هي في مكة قبل الهجرة، وحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند الحاكم متأخر عنه، لأنه أسلمَ السنة السابعة بعد الهجرة النبوية، وفيه تصريح بالسماع، فدل على أنه سمعه بنفسه في السنة السابعة. وأجاب عنه الحافظ رحمه الله تعالى أن هذه بيعة أخرى، بعد فتح مكة، وإنما حصل الالتباس من جهة أن عْبادة رضي الله تعالى عنه حضر البيعتين معًا، وكانت بيعة العقبة من أجل ما يتمدح به، فكان يذكرها إذا حدث تنويهًا بسابقيته.
وحاصله: أن ذكر ليلة العقبة ههنا لتعريف حاله، لا لأن تلك البيعة كانت فيها، فجاز أن يكونَ حديثُ أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مقدمًا وحديث عُبادة رضي الله تعالى عنه متأخرًا. وعارضه العيني رحمه الله تعالى وقال: بل هي البيعةُ التي وقعت بمكة، والقرينة عليه أن فيه لفظ: «العصابة» وهو لا يطلق على ما زاد على الأربعين، وفي لفظ: «الرهط» وهو لأقل منه، فدل على قلة الرجال، في تلك البيعة؛ فلو كانت تلك ما كانت بعد فتح مكة، لاشترك فيها ألوفٌ من الناس، لشيوع الإسلام إذ ذاك، فهذه قرينة واضحة على أنها هي التي كانت بمكة، وحينئذٍ لا يحتاج إلى ما أوّل به الحافظ رحمه الله تعالى أيضًا، من أن ذكر الليلة لتعريف
الصفحة 161
544