كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)
الحال، ويبقى الحديث على ظاهره. واستدل الحافظ رحمه الله تعالى على تأخر تلك البيعة لقرينة أخرى، وقال: ويقوي أنها وقعت بعد فتح مكة، بعد أن نزلت الآية التي في الممتحنة وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12] إلخ، ونزول هذه الآية متأخرٌ بعد قصة الحديبية، بلا خلاف. والدليل عليه ما عند مسلم عن عُبادة في هذا الحديث: «أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما أخذ على النساء» قال الحافظ: بعد سرد الأحاديث: إن هذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الآية، بل بعد صدور البيعة، بل بعد فتح مكة، وذلك بعد إسلام أبي هريرة بمدة، وعارضه الشيخ العيني رحمه الله تعالى، بروايات في البيعة الأولى، وفيها هذه الألفاظ أيضًا، فلم يكن دليلًا على أنها بعد نزول الممتحنة، وإن اشتركت الألفاظ.
أقول: لا شك أن التبادر إلى الحافظ رحمه الله تعالى، فإن ألفاظَ الحديث كأنها مأخوذة من سورة الممتحنة. وأجاب الشيخ بوجه آخر أيضًا وقال: ما الدليل على أن المراد من العقوبة هي الحدود؟ لم لا يجوز أن يكونَ المرادُ منه المصائب (¬1) الأخرى كما في الحديث: «أن الشوكة يشاكها الرجل أيضًا كفارة»، وحينئذٍ يخرج الحديث عن موضع النزاع. واعترض عليه الحافظ رحمه الله تعالى إن هذه المصائب لا دخل فيها للستر، فما معنى قوله: «فستره الله» إلخ، فإنما هي معاملة الرجل في نفسه. قلت: ومن المصائب ما يُشهر بين الناس كاشتهار القبائح والخزي، فيحتاج إلى الستر في مثل هذه، وحينئذٍ صح التقابل، واستقام قوله: «ثم ستره الله». ثم رأيت حديثًا في «كنز العمال» عن عبد الله بن عمرو بن العاص وفيه: «فأقيم الحد» فهو كفارة له، فهذا صريح في أن المراد منه الحدود، دون المصائب، ولكن في إسناده تردد وأسقطه ابن عَدِي، وعندي فيه اضطراب أيضًا.
ثم أقول إن الستر على نحوين: الستر عند الناس، وهو في الحدود، والستر عند الله، وهو بالمغفرة، والإغماض عنه، فالسترُ بهذا المعنى يصح في المصائب أيضًا، ويصح التقابل، وحينئذٍ حاصله أن من أصاب من ذلك شيئًا ثم غَفَرَ الله له في الدنيا فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه يوم القيامة أيضًا وإن شاء عاقبه. فإن قلت: ما الفرقُ بين الحدود والمصائب، حيث اخْتُلِف في تكفير الحدود دون المصائب، فإنها مكفرات اتفاقًا. قلت: الفرق عندي أن الحدود إنما تقام بأسباب ظاهرة كالزنا والسرقة، بخلافِ المصائبِ، فإنها بأسباب سماوية، ولا تجيءُ بأسباب ظاهرة، فإنك إن ضُرِبت الحد، تعلم أنك فعلت موجبُهُ، فلا يسعُ لك أن تقول: لم رجمتُ أو لم قطعت يدي؟ بخلاف ما شكيت أو مرضت لا تدري ما موجبه، فيسع لك السؤال عنه.
¬__________
(¬1) قال الحافظ ابن رجب: قوله فعوقب به يعم العقوبات الشرعية، ويشمل العقوبات القدرية، كالمصائب، والأسقام، والآلام، فإن صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "لا يصيب المسلم نصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه". اهـ. مختصرًا كذا في عقيدة السفاريني ص 320 ج 1.
الصفحة 162
544