كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)
وهذا كمن ضرب عبده لا عن سبب ظاهر، جاز له أن يقول لسيده: لم ضربتني. فلما كانت تلك المصائبُ لا عن أسباب ظاهرة، بل عن أسباب سماوية، ويسعُ السؤالُ عنها بحَسَب الظاهر، جعلَهَا اللَّهُ سبحانه كفارةً رحمةً، على عباده ومِنَةً عليهم، فكأنه جواب عن قولك: لم ابتليتني بتلك البلية قبل سؤالك عنها، بخلاف ما إذا حُدّ رجلٌ فإنه ليس له أن يسألَ عنه من أول الأمر، فجاز أن يكون كفارةً، وجاز أن لا يكون كفارة، ولا يتأتَّى فيه سؤالٍ: لِمَ. وهو ظاهر.
وقال مولانا شيخ الهند رحمه الله تعالى في وجه الفرق: إن المصائبَ وإن كانت كفارةً، إلا أنه لا تتعينُ أنها لأي معصية، بخلاف الحدود، فإنها كفارةٌ لما حُدّ له على التعيين عند من يراه كفارة، فالرجم كفارة للزنا الذي أتى به، وقَطْعُ اليد، كفارة للسرقة التي ارتكبها بخلاف المصائب، فإنها لا يُدرى بكونها كفارة لمعصية على التعيين.
ثم لي تذكرةٌ مستقلةٌ في الجمع بين حديثي عُبادة رضي الله عنه وأبي هريرة رضي الله عنه بحيث يَصِح الحديثان من غير احتياج إلى النسخ، وحاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يعلمُ حكمَ الحدود من حيث العموم، ولم يكن نَزَلَ فيها شيء خاص، فلم يكن يعلم حكمُها من حيث الخصوص، أما علمه من جهة العموم، فمما نزل عليه في تكفير المصائب مطلقًا، والحدُّ أيضًا مصيبةٌ بحسَب الظاهر، فينبغي أن تكون كفارةً، كما أن سائر المصائب كذلك، فكأن الحدود اندرجت تحت هذا العموم. ولما لم يكن نَزَلَ عليه شيءٌ في الحدود خاصة، والقرآن أيضًا لم يصرح فيها بشيء، توقفَ النبي صلى الله عليه وسلّم وقال: «لا أدري الحدود كفارات أم لا؟» أي لا أدري من حيث الخصوص. ونظيرُهُ أنه صلى الله عليه وسلّم سئل عن الخمر في باب الزكاة فقال: «لم ينزل علي فيه شيء، غير تلك الآية الجامعة، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}» فذكر القانونَ وبيَّن حكمه من حيث العموم، ونفى عن حكم جزئي، كذلك ههنا، فحديث عُبادة رضي الله عنه نظرًا إلى العمومات، وحديث أبي هريرة في التوقف نظرًا إلى خصوصِ الحُكم.
واعلم أن في حديث الحاكم بعد قوله المذكور زيادة وهي: «لا أدري التبع كان مؤمنًا أم لا؟ ولا أدري خضر كان نبيًا أم لا؟» وقد كنتُ متحيرًا في مراده، فإنه صلى الله عليه وسلّم متى ادّعى علم جميعِ الأشياء لنفسه، فإنه إن كان لا يعلم هذه الأشياء، فقد كان لا يعلمُ كثيرًا من الأشياء غيرها، فما معنى نفي علم هذه الأشياء خاصة؟ فلما راجعت القرآن بدا لي مراده، وهو أنّ القرآنَ ذكرَ الحدود ولم يتعرض إلى كونها كفارة في موضع. وكذا ذكر التبع، وخَضِرٌ عليه السلام، ولم يتعرض إلى إيمانهما فتبيَّن أنه يريدُ نفيَ علمه عما ذُكر في القرآن. أعني أنه صلى الله عليه وسلّم وإن كان لا يدري غير واحد من الأشياء، ولكنه خصص هذه بنفي العلم، لكونها مذكورة في القرآن، ثم لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلّم تفاصيلها، فكأنه يريد أن كثيرًا من الأشياء، وإن كنتُ لا أدريها، ولكن لا علم لي على وجه التفصيل ببعض ما ذكر في القرآن أيضًا، كالتبع، وخضر،
الصفحة 163
544