كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)

والحدود فإنها مع كونها مذكورة في القرآن، لا أدريها بتفاصيلها، فخصَّها بالذكر لهذا المعنى. واستدل (¬1) المدرسون بما في الطحاوي أن النبي صلى الله عليه وسلّم أُتِيَ بلص اعترف اعترافًا، ولم يوجد معه المتاع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما أخالُك سَرْقت»، قال: بلى يا رسول الله، فأمر به فقُطِعَ، ثم جيءَ به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم «استغفر الله وتُبْ إليه» ثم قال: «اللهم تُب عليه»، فلو كان الحدُّ ساترًا كما قال به الشافعية، لما احتاج إلى الاستغفار بعده، مع أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمره بالاستغفار.
فعلم منه أن الحدودَ أصلُهَا للزجر، وإنما يصير ساترًا بعد لحوقِ التوبةِ.
قلت: وقوله صلى الله عليه وسلّم «وتب إليه» يحتمل معنيين: الأول: «وتب إليه»، أي في الحالة الراهنة، ليصيرَ الحدُّ كفارةٌ لذنبك، وحينئذٍ يتم الاستدلال لأنه دل على أن الحدَّ لم يصر كفارةٌ بعد، والثاني: معناه في الاستقبال، بأن لا تفعله ثانيًا، كما يقال للصبيان عند التأديب: تب تب، لا يكون معناه إلا الانزجارُ عنه في الاستقبال، وحينئذٍ يخرجُ عما نحن فيه ولا يتم الاستدلال، والظاهر هو الأول.
واعترض عليه الحافظ أن اشتراط التوبة للتكفير، مذهب المعتزلة، لا مذهب أهل السنة والجماعة. قلت: كلا، بل المغفرةُ قبل التوبة وتحت الاختيار، وبعدها موعودةٌ، فظهر الفرق. ثم إن البغوي من الشافعية أيضًا قائل به. يعني أن الحدودَ عنده أيضًا سواترُ بشرط التوبة.

وأصل البحث في القرآن، فرأيت جماعةً من المفسرين اختاروا التكفير، وجماعة أخرى يختارون أنها زواجر، ويُستفاد من صنيعهم أنهم يأخذونه من القرآن على طريق الاستنباط، وليس عندهم مذهبٌ منقح، ولذا لا يذكرون مذاهبهم، بل يبحثون كبحث العلماء. أقول: وتفحصتُ القرآنَ لذلك، وما رأيتُ في موضعٍ أنه ذكر الحدود ثم وعدَ بكونها كفارة، فمن نَظَرَ إلى عدم ذكر الوعد، ادّعى أنها ليست كفارة، ومن نظر إلى أنهم إذا أُقيمَ عليهم مثلُ هذه العقوبات
¬__________
(¬1) قلت وقد سنح لي أوان درس "المشكاة": أنّ قولَه: فهو كفارة له، ليس حكمًا، بل أمرٌ مرجو من رحمة الله، أي إذا أقيم عليه الحد فقد يرجى من الله سبحانه أن يجعلَها كفارةً له، ويدل عليه ما رواه الترمذيُّ عن علي رضي الله عنه مرفوعًا: "من أصاب حدًا فعَجَّلَ عقوبَتَهُ في الدنيا، فالله أعدلُ من أن يُثَنِّيَ على عبده العقوبةَ في الآخرة، ومن أصاب حدًا فستَرَهُ الله عليه، وعفا عنه، فالله أكرمُ من أن يعودَ إلى شيء قد عَفَا عنه". فهذا الحديث مشيرٌ إلى أن كونَ الحد كفارة، ليس بحكم، ولكنه أمر مرجو نظرًا إلى عدله تعالى، كما أنه مرجو في حال ستره أيضًا، نظرًا إلى كرمِهِ تعالى، ومعلوم أنه لا يقول أحد بكونه كفارة في حال الستر، إنما الاختلافُ بعد إقامةِ الحد، ثم الجزاء ههنا "فالله أعدل".
وفي حديث البخاري: "فهو كفارةٌ له" مع اتحاد الشرط، فهو بمعنى واحد، ومعنى التكفير: هو أن الله يُرجى منه العفو والكفارة، وكذلك الجزاء في الجملة الثانية. متعدد مع اتحاد الشرط، وهما أيضًا راجعان إلى معنى واحد، فالكفارة في كلتا الصورتين أمرٌ مرجوٌ، لا محكوم به قطعًا والله أعلم بحقيقة الحال.
ثم بدا لي: أن قوله: "لا أدري الحدود كفارة أم لا" كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والله لا أدري وأنا رسول الله ما يُفعل بي ولا بكم" مع كونه عالمًا له بوجه، وكقوله تعالى: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} فاعلمه.

الصفحة 164