كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)
الشديدة كالرجم والقطع، فينبغي أن تكون مكفراتٌ أيضًا، ذهب يدّعي أنهامكفرات. وكبيرُ نزاعِهم في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] إلخ، وفيه تصريحٌ بعد ذكر حدِّهم: أن لهم في الآخرة عذاب عظيم، فكأنهم لم يرتفع عنهم العذابُ بعد إقامة الحد أيضًا، وهذا يُشعر بعدم كونها مكفرات. ولهذا جَزَمَ البغوي بعدم كون الحدود مكفرات (¬1).
قلت: ولي فيه تردد (¬2)، لأنهم اختلفوا في شأن نزولها ففي الصحيحين: أنها نزلت في العُرَنيين، ومعلوم أنهم كانوا ارتدُّوا بعد إسلامهم، وحينئذٍ فالآية خارجةٌ عن موضع النزاع، لأن المسألةَ إنما كانت في المسلمين. أما التكفيرُ في حق الكفار، فلم يقل به أحد. وقيل: الآية في قُطَّاع الطريق، وإليه ذهب الجمهور، وهو المنقولُ عن مالك رحمه الله تعالى. وحينئذٍ يتمُ الاستدلال، لأن قطعَ الطريق يمكن من المسلمين أيضًا.
قلت: والآية عندي في حق العُرنيين، إلا أن الآية لم تأخذ ارتِدَادهم، وكفرهم في العنوان، بل أدارت الحكم على وصفِ قطعِ الطريق، فيدور الحكمُ أيضًا على قطع الطريق. ولا يقتصرُ على المرتدين والكفار فقط. ومع ذلك أقول: إن استدلال البغوي ضعيفٌ، لأني أجدُ المعصية الواحدة تختلف شدَّةً وخفة، باعتبارٍ حال الفاعلين. وهذا معقول، فقد تكونُ المعصيةُ من المؤمن، ويخف العقاب عليها رعايةً لإيمانه، وتكون تلك المعصيةُ بعينها من الكفار، ويُزاد في عقوبته لحال كفره. وعليه جرى العرفُ فيما بيننا أيضًا، فلا نؤاخذُ حبيبنَا على أمرٍ ارتكبه، كما نؤاخذُ به عدونَا على ذلك الأمر بعينِهِ. وحينئذٍ يمكن أن يكونَ ذكرُ العذاب في الآخر جرى لحالِ كفرهم، فإن المعصيةَ تزدادُ شَنَاعَةً بحسَبَ الفاعلين، فقطعُ الطريقِ من المسلمين شنيعٌ، وهو من المرتدينَ أشنع. فيمكن أن يكون جَرَى ذكرُ العذاب لحالِ الفاعلين، لا لحال الفعل.
¬__________
(¬1) وذكر ابن جرير الطبري في هذه المسألة اختلافًا بين الناس، ورجح أن إقامةَ الحدِّ بمجرده كفارة، ووَهَن القول بخلاف ذلك جدًا. قال الحافظ رجب: وقد رُوي عن سعيد بن المسيب وصفوان بن سليم أن إقامة الحد ليس بكفارة، ولا بد معه من التوبة. ورجحه طائفة من المتأخرين، منهم: البغوي وأبو عبد الله بن تيمية رحمه الله تعالى في تفسيريهما، وهو قول أبي محمد بن حَزْم. والأول قول مجاهد، وزيد بن أسلم، والثوري والإمام أحمد رحمه الله تعالى. اهـ عقيدة السفاريني ص 320 ج 1.
(¬2) قال الطحاوي رحمه الله تعالى في "مشكل الآثار" بعد ما أخرج عن ابن عباس أن الآية {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] نزلت في المشركين، ثم أخرجَ قصة العُرَنيين عن أنس رضي الله عنه ثم قال: إن الحديثَ الأول من هذين الحديثين يدلُ على أن الحكمَ المذكورَ فيه في المشركين إذا فعلوا هذه الأفعال، لا فيمن سواهم. وفي الحديث الثاني أن العقوبة في ذلك كانت عند أنس رضي الله عنه بكفر، إذ كانت تلك الأفعالُ مع الرِّدة لا مع الإسلام. ثم ذكرَ ما هو الوجهُ عنده فقال: إن قوله تعالى المذكور فيه جزاءٌ لمن أصاب تلك الأشياء، التي تلك العقوبات عقوبات لها، وقد تكونُ تلك الأشياء ممن ينتحلُ الإسلام وممن سواهم، فوجب استعمالُ ما في هذه الآية على من يكون منه هذه المحاربة، والسعي المذكورُ فيه إلى يوم القيامة، من أهلِ الملة الباقين على الإسلام، ومن أهل الملة الخارجين عن الإسلام إلى غيره، ومن أهل الذمة الباقين على ذمتهم، ومن أهل الذمة الخارجين عن ذمتهم، كما دخل أهلُ هذه الفرق جميعًا في الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} إلخ". انتهى. مختصرًا ص 317 ج 1.
الصفحة 165
544