كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)
المشترك، وتُدَار عليه. وإنما ذكرت ههنا مسألة المعاني، وأيدت منها للمذهب لثبوتها من دلائل أخرى، وما جعلته مدارًا، واستدلالًا.
والفَصْلُ عندي: أن الأحوالَ بعد إقامة الحد ثلاثة: فإن تابَ المحدودُ بعده، صار الحد كفارةً له بلا خلاف. وإن لم يتبْ فلا يخلو، إما أنه انزجر عنه واعتبر له ولم يَعُد إليه، فقد صار كفارةً أيضًا وإن لم يبال به مبالاةً ولم يزل فيه منهمكًا كما كان، وعاد إليه ثانيًا؛ فلا يصير كفارةً له. ولذا صلى النبيُّ صلى الله عليه وسلّم على امرأة غَامِدِية وقال: «لقد تابت توبةً لو قُسِمَتْ على أهل المدينة لَوَسِعْتَهم». ولما لم تظهر تلك السماحةَ من مَاعِز رضي الله تعالى عنه، وعلم منه تأخر ما عند إقامة الحد، لم يصل عليه. فهذه أحوالٌ فليراعها، وهذا كالإسلام، إن اشتمل على التوبة هدمَ ما سبق منه من المعاصي، وإلا أُخِذَ بالأول والآخر، فإذا كان حالُ الإسلامِ الذي هو من أعظمُ المكفِّرَات ما قد علمت، فما بالُ الحدود التي تكفيرها مختلف فيه؟ ولما كانت الحدود تتضمنُ التوبة في عامة الأحوال، وقلما تكون أن تجرى عليه هذه العقوبات، ثم لا يتوبُ في نفسهِ ولا ينزجِرُ، سيما في عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم حُكِمَ في الأحاديث بكونها كفارةٌ مطلقًا (¬1).
12 - باب مِنَ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنَ الْفِتَنِ
19 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ». أطرافه 3300، 3600، 6495، 7088 - تحفة 4103
قد يأخذ المصنفُ رحمه الله تعالى لفظًا من الحديث، ويركِّبُ منه ترجمة بقطعة من الحديث، ويريدُ أن يجعلَهَا مفيدة، فيضيفُ إليها جُملة من عنده، ويدخل عليها: «من»
¬__________
(¬1) بل أقول: إن بذلَهم أنفسهُم لإقامة الحدود وإجراء حكم الله تعالى عليهم، من أعظم التوبة. كيف لا؟!! وقد سمّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - توبة في حديث الغَامِدِية، فقال: "لقد تابت توبة ... الخ" وإليه أشار السفاريني في عقيدته فقال في الرجل الذي أصاب حدًا، وجاء معترفًا وقال: أصبت حدًا ... إلخ، إن هذا الرجل جاء نادمًا، تائبًا، وأسلم نفسَه إلى إقامة الحد عليه، والندمُ توبةٌ، والتوبةُ تكفر الكبائر بغير تردد. اهـ.
وبالجملة إنا قد علمنا من حال الصحابة رضي الله عنهم: أن أحدًا منهم إذا أقيم عليه الحدُّ كان حدُّه يتضمن التوبةَ بلا مرية، وحينئذٍ لا خلاف في كونه كفارة، وكذا كل مَن يُقام عليه الحد، فإنه يتوبُ في نفسه، فإن الندم توبته، وهو أمر قلبي لا يستدعي التلفظ به، وقلما يكون رجلٌ يقام عليه الحد، ثم لا يتوب إلى الله تعالى ولا يندم، بل يُصرُّ على المعصية، فلا عليه أن يؤخذَ بالأول والآخر، ولا يغفر له ذنبه. والغرضُ منه أن النزاع بين العلماء قد يرجعُ إلى نزاع ذهني، وذلك لعزة مصدَاقِهِ في الخارج، وحينئذ ينبغي أن لا يجهر به كما سمعت عن الشيخ رحمه الله تعالى في حديث "الأعمال بالنيات" فإنه لا خلافَ فيه إلا في جزئي نادر، قلما يتفقُ أن يقع، ونظيره مسألة الباب، والله تعالى أعلم بالصواب.
الصفحة 167
544