كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)
عندي: أن الذنبَ غيرُ المعصية، وههنا مراتب، بعضها فوق بعض، ووضع لكلٍ لفظ، فالمعصيةُ عدولٌ عن الحكم، وانحرافٌ عن الطاعة، ومخالفةٌ في الأمر، وترجمته: نافرمانى فهذا أشدها. ثم الخطأ، وهو ضِدُّ الصواب، وترجمته في الهندية: نادرست. ثم الذنب، وهو أخفها، ومعناه: العيب، فالسؤال ساقطٌ من أولِ الأمر، لأن في الآية ذكرُ مغفرة الذنوب، أي ما يعدُّ عيوبًا في ذاته الشريفة، وشأنِهِ الرفيعة. وقد سمعت: أن حسناتِ الأبرار سيئاتِ المقربين، فلعل ذنوبه من هذا القبيل. فالبحث ههنا بالصغائر والكبائر في غير موضعه، فإن هذا التقسيم يجري في المعصية، دون الذنوب بالمعنى اللغوي، بل هو موهم بخلافِ المقصود. ثم ههنا إشكالان.
الأول: أن الأنبياءَ عليهم الصَّلاة والسَّلام كلهم مغفورون، فما معنى التخصيصُ في حقه فقط، مع كونهم مغفورين أيضًا. والثاني: أن مغفرةَ ما تأخر مما لا يُفهم معناه، فإنها تقتضى وجودَ الذنوب أولًا، ولم توجد بعد. والجواب عن الأول: أن الذي هو مختصٌ به هو الإعلان بالمغفرة فقط، أما نفس المغفرة فقد عمتهم كلُّهم، وذلك لأنه قد أبيحت له الشفاعة الكبرى، وقُدِّر له المقام المحمود، فناسب الإعلان بها في الدنيا، ليثبِّتَ فؤادَه يوم الفزع الأكبر، ويسكن جأشه، ولا ترجف بوادره، فلا يتأخر عن الشفاعة الكبرى، التي هي منزلته ومقامه، ولو لم يعلن بها في الدنيا، لتذكَّر ذنوبه أيضًا كما تذكروا، ولما تقدم إليها كما لو يتقدموا، فلما حلت به المغفرة التي لم تغادر شيئًا من ذنوبه، وأعلن بها عن المنائر والمنابر، إلى يوم الحشر، علم أنه هو المأذون فيها. وهو النبي الآسي والرسولُ المُوَاسي: ولهذا المعنى لما عرضت الشفاعة على النبين قالوا: ائتوا محمدًا، فإنه قد غفر له ما تقدم من ذنه، فذكروا هذا الوصف، فالإعلان والاطلاع لهذا، لا لأن المغفرةَ لم تشملهم.
والجواب عن الثاني: أما أولًا فبالمنع بأن يقال (¬1): إنا لا نُسلِّم أن المغفرة تَستدعي وجودَ الذنوب أولًا، بل المغفرة على ما يأتي، بمعنى أنك إن صدر عنك ذنب لن نؤاخذه منك، فهي بمعنى عدم المؤاخذة. وأما ثانيًا: فبأن الجميع موجودة في علمه تعالى فصحت المغفرة على الجميع دفعة، لعدم التقدم والتأخر في علمه تعالى. وثالثًا: إن المغفرةَ من أحكام الآخرة، وهناك كلها ماضيةٍ، وإن كان في الدنيا بعضها ماضية وبعضها آتية. وحكمة الاطلاع مرّت.
ثم إنه قال الشيخ ولي الله قُدِّس سِرُّه العزيز: إن الوعد بالمغفرة مقتضاه العمل، والاحتياط لا عدم العمل وترك الاحتياط. ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم حين سئل عن عبادته مع مغفرة ذنوبه: «أفلا أكونُ عبدًا شكورًا»، فعُلم أن مقتضى المغفرة هو الازدياد في العمل شكرًا، وهذا يفيدك فيما قيل في البدريين: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
(فغضب) ومَوْجِدَةُ النبي صلى الله عليه وسلّم إنما كان لأن سؤالهم كان مخالفًا للفطرةِ السليمة، فكان واجبًا عليهم، أن يفهموه من فطرتهم، وهكذا ثبت منه في مواضعَ عديدة، فإذا أخطأ أحدهم في
¬__________
(¬1) قلت وهذا الجواب على ما أتذكر ارتضى به الحافظ فضل الله التوربشتي في "شرح المصابيح".
الصفحة 170
544