كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)

التصديق، والأعمال، ليقال: إنه أراد في حديث أنس رضي الله تعالى عنه إثبات الزيادة والنقصان في نفس التصديق، وإنما الزيادةُ والنقصان عنده باعتبار المجموع؛ فإذن توجيه الحافظ رحمه الله تعالى من باب توجيه القائلِ بما لا يرضى به قائله.
وكذا جوابه عن الأول، والثاني، غير نافذ؛ لأن تفاوتَ الموزونات وذكرُ المراتب ورد في حديث أبي سعيد رحمه الله تعالى أيضًا كما هو عند مسلم، ولئن سلَّمنا أن تفاوت المراتبِ ليس في طريق المصنف رحمه الله تعالى خاصة، فلا يصح الجواب أيضًا؛ لأنه لا ذكر للأعمال في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه عنده، كما أنه لا ذكر فيه لمراتب الإيمان، فحديثه لا يصلح لترجمة التفاضل، كما أنه لا يصلح لترجمة الزيادة والنقصان، فكيف ترجم بالتفاضل في الأعمال؛ فكلام الحافظ رحمه الله تعالى يصلح جوابًا عن عدم ترجمته بالزيادة والنقصان، لا عن ترجمته بالتفاضل في الأعمال.
وحينئذٍ أقول: إن البخاري رحمه الله تعالى إنما خصص حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه بالتفاضل في الأعمال لأمرين.
الأول: أنه رحمه الله تعالى نظر إلى روايتهما المفصلتين: فحديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أخرجه مسلم في «صحيحه» مفصلًا، وفيه ذكر الأعمال أيضًا. ولفظه: «يقولونَ ربنا كانوا يَصُومون مَعَنَا ويُصلُّونَ ويحُجُّون، فيقال لهم: أخْرِجُوا من عَرَفْتُم» ثم ذكر بعده مراتبَ الخير على الترتيب وفي آخره: «فيقبض الله قبضة من النار فيُخرجُ منها قومًا لم يَعْمَلوا خيرًا قطُّ» وليس فيه ذكرُ الإيمان، وكلمةُ التوحيد، وإن كان معتبرًا قطعًا لكونه مفروغًا عنه؛ فإن الأعمال لا عبرة لها بدون الإيمان. وأما حديث أنس رضي الله تعالى عنه فلم نجد فيه ذكر الأعمال في أحد من طرقه؛ بل فيه بعد ذكر الشفاعة «فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه»، وليس في آخره ذكرُ العمل، ولعل نظر المصنف إلى هذين المفصلين، وحينئذٍ لا شك أن الطريقَ الأول لاشتماله على ذكر الأعمال يصلح لترجمة التفاضل في الأعمال، وكذا الثاني أيضًا يصلُح لما ترجم به.
والثاني: أنه أخرجَ لفظَ الإيمان في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وعيَّنَ مُرَاده بذكر المتابعة، «بالخير» وهو العمل، فكأنه نبَّه على أن المراد من مراتبِ الإيمان في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، إنما هو مراتبُ الأعمال، فجعل لفظ الإيمان مفسَّرًا، والخير مفسِّرًا «بالكسر» وإطلاقُ الإيمانِ على الخير جائزٌ عنده، بل هو أوضحُ في مراده، وعَكَسَ في حديث أنس رضي الله تعالى عنه، فأخرج لفظَ الخير في الأصل، وعيَّنَ مراده بإخراج لفظ الإيمان في المتابعة، فلما اختلف محطُّ الفائدة في سلسلة أسبابِ النجاة في الحديثين، بكون الأعمالِ في الأول، ومراتبُ الإيمان في الثاني، وضع عليهما التراجم كما ترى، ونبَّه عليه بإخراج المتابعات، شرحًا لما في المتن.
بقي أنه لم جعل الإيمانَ أصلًا والخير متابعًا في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه،

الصفحة 174