كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)

على عَكْسِ حديث أنس رضي الله تعالى عنه؟ فقد مر مني أنه من علوم المصنف رحمه الله تعالى.
والحاصل: أن حديث أبي سعيد لما اشتمل على ذكر الإيمان في الأصلِ، ولا بد أن يكونَ هناك أحدٌ أهلًا للإيمان أيضًا، فأخذ منه لفظَ أهلِ الإيمان، وأخذ من متابعة الخيرِ لفظَ الأعمال، وركَّبَ من مجموعِ الأصل والمتابعة ترجمة، فقال: تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه جعل الخيرُ إيمانًا للمتابعة، ثم أخذَ من المجموعِ ترجمة زيادة الإيمان ونقصانه، وقد مرّ مني أنه لم يكن جرى ذكرُ تلك المسألة، على طريق المترجم له، بل كان ذكرُها استطرادًا، فأراد أن يذكرها على طريق المترجم له أيضًا، كما قاله الحافظ رحمه الله تعالى: هذا كلام على ترجمة المصنف رحمه الله تعالى.
أما الكلام في الحديث ففيه أيضًا غموضٌ ودقة: الأول أن المراد من الخير ما هو؟ والثاني: أن الذين يخرجون في الآخر من هم؟ فاعلم أنه اتفق الشارحون على أن الخير في الحديثين زائدٌ على نفس الإيمان، لقوله تعالى: {أو كسب في إيمانِها خيرًا} (الأنعام: 158) فهذا دليل واضح على أن المرادَ من الخير هو العملُ الزائدُ على الإيمان، وكذا قوله تعالى: {فمن يعملْ مثقالَ ذرةٍ خيرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذرةٍ شرًا يره} وأرادوا بالخير فيهما ما يعم الجوارح والقلب.
قلتُ: أما الخير في حديث أبي سعيد، فالمراد به أعمال القلب فقط، كحسنِ النية، وغيره، لأن فيه ذكر الخير بعد أعمال الجوارح؛ لأن الشفعاءَ لما يخرِجُونَ مَنْ كَان عندهم أعمال الجوارح. يقولون: ربنا ما بقي فيها أحدٌ مما أمرتنا به، وهم أصحاب أعمال الجوارح. فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقالٌ دينار من خير فأخرِجوه إلى آخر المراتب، فلا بد أن يراد من الخير غير أعمال الجوارح، فإنهم أُخرجوا في المرة الأولى، وإنما أذن في هذه المرة فيمن كان عندهم خير على مراتبه، فلا يكون إلا من الأعمال القلبية.
وأما في حديث أنس رضي الله تعالى عنه، فالمرادُ فيه من الخير هو نورُ الإيمان، وانفساحه وانبساطه، دون العملِ القلبي، بل ما هو من آثار الإيمان؛ لأنه لا ذكر في حديث أنس رضي الله تعالى عنه للأعمال أصلًا، بل فيه ذكر مراتبُ الخير من أول الأمر، مع ذكر لا إله إلا الله، فيكون قرينة على أن المرادَ منه ما هو من لواحق لا إله إلا الله، كالنماء مثلًا، ولأن في حديث أنس رضي الله تعالى عنه في بعض ألفاظه: «مثقال حبة برة أو شعيرة من إيمان»، فهذا دليل على أن تلك المراتب يجب أن تكون من الإيمان، فلذا جعلتُ الخيرَ فيه من لواحقه، وثمراته، بخلاف حديث الباب، فإنه لا ذكر فيه للإيمان في اللفظ، وإن كان معتبرًا قطعًا، فلا علينا أن لا نريد فيه من الخير آثار الإيمان، مع أنه لا إيماء فيه في اللفظ إلى مراتب نفس الإيمان أيضًا.
وحينئذٍ فالتفاوتُ في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه راجع إلى أعمال القلب، والتفاوت في حديث أنس رضي الله تعالى عنه إلى ما هو من آثار كلمة الإخلاص، وعلى هذا

الصفحة 175