كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)

التقرير فالأصل في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه لفظ: الخير وإنما أخرج المصنف رحمه الله لفظَ الإيمان في الأصل، والخيرَ في المتابعة، تنبيهًا على أن المراد من الإيمان ههنا هو الخير، الذي هو من الأعمال، وعكسَ في حديث أنس رضي الله تعالى عنه للتنبيه على أن المرادَ من الخيرِ هو الإيمانُ. فإن قلت: إنك جعلت الخيرَ في حديث أنس رضي الله تعالى عنه من آثار الإيمان، وآثارُ الشيءِ غيره، فلا يثبت الزيادة والنقصان في الإيمان، وهو خلافُ ما رَامَه المصنف رحمه الله تعالى.
قلت: وقد مرّ مرارًا أن آثارَ الإيمان عند المصنف رحمه الله تعالى أيضًا من الإيمان، فلا بأس في تفسيره الخير بالإيمان، والتفاوتُ فيها يكون عين التفاوت في الإيمان. ثم اعلم أن حديث أنس رضي الله تعالى عنه عند مسلم مفصل ومجمل، وليس في المفصل ذكرُ كلمة الإخلاص، إلا في المرتبة الرابعة، وهم الذين يقول النبي صلى الله عليه وسلّم فيهم: «ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك»، والمراتبُ الثلاثةِ قبلها لا ذكرَ فيها للكلمة، وهي مرادةٌ قطعًا، فإنها مذكورة في الثلاث منها في الطريق المجمل، ولفظه: «يخرجُ من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يَزِنُ شعيرة» إلى آخر المراتب وإنما حَذَفَها من المفصَّل؛ لأن المقصودَ ذكرُ ما به الفرق دون ما هو مشتركٌ في الكل، فحذفَ المشتركَ، وذكرَ المختص.

وعلى هذا الفرقُ بين حديثي أبي سعيد رضي الله تعالى عنه وأنس رضي الله تعالى عنه، أما أولًا: فبذكر الأعمال في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، دون أنس رضي الله تعالى عنه.
وأما ثانيًا: فبأن الخير في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه من أعمال القلب، وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه من متعلَّقات لا إله إلا الله وآثاره، فالخير في حديث أنس رضي الله تعالى عنه من متعلَّقات الكلمة، لا من الأعمال القلبية، وفيه إيماءٌ إليه أيضًا دون حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، لعدم ذكر الكلمة في حديثه في أحد من طرقِه، ولعلك علمت مما قلنا أن الخيرَ عندي زائد على الإيمان في كلا الحديثين، إلا أنه من أعمال القلب في حديث الباب، ومن متعلَّقات الإيمان في حديث أنس رضي الله عنه؛ بخلاف ما اختاره الشارحون، فإنهم جروا فيهما على طريق واحد.
ثم إن المراتب في الحديثين مشتبكة، والأخيرة مشتركة، فالذين أخرِجُوا في المرة الأخيرة، في حديث الباب، هم الذين أُخْرِجُوا في حديث أنس رضي الله عنه، وهم الذين ليس عندهم عملٌ من عمل الجوارح، ولا عندهم شيءٌ من أعمال القلب، ولا من ثمراتِ الإيمان شيء، وإنما يُخْرِجُهُم أرحمُ الراحمينَ بلا عملٍ عملوه، ولا خيرٍ قدَّموه.
بقي الكلامُ على الأمر الثاني: أي الذين يخرجُون بلا عمل، من هم؟ فالشيخ الأكبر رضي الله عنه لما رأى أنَّ هؤلاء عندهم التوحيد فقط، وليست عندهم الشهادةُ بالرسالة: ذهب إلى أنهم أهل الفترة، وإذ لم يدركوا زمن الرسالة؛ فنجاتُهم تدورُ على التوحيدِ فقط.
أقول: ليس الأمرُ كما قاله الشيخ الأكبر رحمه الله، بل هم الذين عندهم التوحيد

الصفحة 176