كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)

وقد تحقق عندي أنه إذا لم يُبْد عنده ترجيح بين ألفاظ الحديث، يترجم على كلِ واحدٍ منها ترجمةً مناسبةً له، كما فعل في قوله صلى الله عليه وسلّم «إذا أمَّن الإمام فأمنُوا» وفي لفظ: «إذا أمّن القارىء» فالحديث واحد، فأخرج الأولَ في الصلاة: لأن لفظ «الإمام» يناسبُها، ووضع ترجمة مناسبة. وأخرج الثاني في الدعوات، فإن القراءةَ لا تنحصر في الصلاة، بل تكون خارجَها أيضًا. والذي عندي أن تُدَارَ المسألة على القدر المشترك، ولا ينبغي أخذها عن خصوصِ لفظ، فإنه لا يتعينُ أنه لفظُ صاحب الشريعة أو لفظ الراوي، والله أعلم.

حكمةٌ بالغة
واعلم أن كلمةَ الإخلاص، لاستئصال الإشراك في العبادة، دون الإشراك في الذات، وعليه تُبنى دعوةُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأن منكري الربوبية أو المشركين في الذات كانوا أقل قليل، فلم يريدُوا بتلك الكلمة إلا الردَّ على الذين كانوا يشركون في العبادة، كما حَكى اللَّهُ تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] يعني أن الله سبحانه واحدٌ، وهؤء مقرِّبون إليه، والعياذ بالله. وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] وقال تعالى: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35] ولم يقل: يجحدون، فعلم أنهم لم يكونوا منكرين لتلك الكلمة رأسًا، لأن الاستكبار بعد العلم، وقد مر أن أول من بعث لدحض الكفر هو نوح عليه الصَّلاة والسَّلام، وقبله لم يكن إلا الإيمان فقط، ثم جاء إبراهيمُ عليه الصَّلاة والسَّلام وقابل مع قوم نمروذ، وكانوا يشركون في العبادة، فردّ عليهم بأبلغَ وجه وأتمَّ تفصيل. وعلى هذا فالملةُ الإبراهيمية هي استئصال الإشراك في العبادة.
بقي موسى وعيسى عليهما الصَّلاة والسَّلام فلم يكونوا بعُثوا في مُقابلةِ الكفر، بل إلى بني إسرائيل، وكانوا مسلمين باعتبار قومهم، لأنهم كانوا من أولادِ يعقوب عليه الصَّلاة والسَّلام، ثم جاء بعدهم كلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم وقد انمحت آثار الأنبياء، واندرست تلك الكلمة، وانقطعت عن أصلها وفرعها، حتى لم يكن يعرفُها أحدىٌ. فأحيانها، وأسسها، وأقامها على سُوقِها، ليغيظ بها الكفار، فمن عَرَف تلك الكلمة، أو قالها، فقد قالها مقلدًا إياه صلى الله عليه وسلّم لأنه هو الذي أحياها وعلَّمَها الناس، ولذا يقال له: إنه على الملةِ الإبراهيمية، وحينئذٍ القول بتلك الكلمة فقط تضمن الشهادة بالرسالة أيضًا، وعليه فليحمل حديث مسلم: «من قال: لا إله إلا الله دَخَلَ الجنة» ليس معناه ولو بدون الشهادة بالرسالة، بل معناه أن من قال تلك الكلمة مقلِّدًا ومقتديًا به صلى الله عليه وسلّم دَخَلَ الجنة، فإنه قد أقر بالرسالة وشهد بها أيضًا، حتى أنهم صرحوا أن أحدًا لو قالها بدون تقليده صلى الله عليه وسلّم كسنوح السوانح، لا يكون من الإيمان في شيء، فظهر منه وجه آخر لحذف الشهادة بالرسالة في الحديث.
ثم اعلم أن صيغة الشهادة غلبت عليها جهة الإيمان، وليست من عامة الأذكار، بخلاف لا إله إلا الله، فإن فيها جهة كونها ذكرًا من الأذكار أيضًا، بخلاف الشهادة بالتوحيد والرسالة، فإنها ليست ذكرًا، بل هي إيمان، ولذا إذا تذكر الشهادة بالتوحيد، تضم معها الشهادة بالرسالة

الصفحة 178