كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)
المصلى، فمن هذا الباب، وكتب النووي رحمه الله تعالى تحته مسائل الدِّية: بأنه لو قتل المارِّ أحدٌ هل يجبُ به الدِّية أم لا؟ فأوهم أن المراد من المقاتلة القتل، وهو غلطٌ، وكان الأولى أن لا يكتب هناك تلك المسائل. فإن الحديثَ لا تعلق له بمسألة القتل، وذكر تلك المسائل يوهم ذلك.
ثم عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى أنه يقاتلُ مع قوم تركوا الخِتَان، أو الآذان، وفهِمَ منه بعضهم أن الأذان عنده واجب.
قلت: (¬1) بل القتال إنما هو على تركِ شعار الإسلام والأذان، والخِتَان، من شعارِهِ فمن نَسَبَ إليه وجوب الأذان منا فقد توهمَّ من هذه المسألة، فإذا ثبت عنه جواز القتال من هؤلاء، فمن تارك الصلاة أولى.
ثم ههنا مهم (¬2): وهو أنه كيف امتنع عمر رضي الله تعالى عنه عن قتال مانعي الزكاة مع هذا الحديث الصريح؟ والحل ما في رسالتي: «إكفار الملحدين» وأوضحته في مواضع، وخلاصته: أن اختلاف الشيخين إنما كان في غرض مانع الزكاة، فجعله عمر رضي الله تعالى عنه بغيهم، وجعله أبو بكر رضي الله تعالى عنه الرِّدة، من حيث إن الإيمانَ اسم لالتزام كل الدين، فمن فرق بين الصلاة والزكاة، فكأنه لم يؤمن بالكل، ومن لم يؤمن بالكل، فهو كافر قطعًا. وهو نظر الحنفية: أن الإيمانَ لا يزيدُ ولا ينقص، لأنه لاتشكيك في الالتزام وقد مر الخلافُ في تحقيق الواقعة، والكشف عنها ولو تحقَّق عند عمر رضي الله تعالى عنه أنهم أنكروا الزكاة رأسًا لأكفرَهَم هو أيضًا، ولم يتردد أصلًا، وذكر مثله العلامة الحافظ الزَّيلعي رحمه الله تعالى في «تخريج أحاديث الهداية» من الجزية وفي «المستدرك» عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ثلاث أحب إليّ من حُمْر النَّعم»، وذكر منها قومًا قالوا: نقرُّ بالزكاة في أموالنا، ولا نؤديها إليك، أيحلُّ قتالهم؟ انتهى مختصرًا. وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين. فعُلم منه أنهم لم ينكروا الزكاة رأسًا، كيف ولو أنكروها عن أصلها
¬__________
(¬1) قال النووي: إن هذا الحديث يُستدل به على وجوب قتال مانعي الصلاة، والزكاة، وغيرهما من واجبات الإسلام، قليلًا كان أو كثيرًا. قال الشيخ العيني رحمه الله تعالى: فعن هذا قال محمد بن الحسن رحمه الله تعالى: إن أهلَ بلدة، أو قرية، إذا أجمعوا على ترك الأذان، فإن الإمام يقاتلهم، وكذلك كل شيء من شعائر الإسلام. اهـ. قال الشيخ: ومن هنا صار الحديث معمولًا به عندنا أيضًا فإنه لما جاز القتال من تاركي الأذان، فمن تاركي الصلاة بالأولى.
(¬2) وقد تعرض إليه العيني رحمه الله تعالى وراجع كلامه، وحينئذٍ تقدر قدر كلام الشيخ قدس الله سره نعم ذكر العيني رحمه الله تعالى كلامًا وهو مفيدًا. قال وسأل الكرماني ههنا عن حكم تارك الزكاة ثم أجاب بأن حكمهُ حكم تارك الصلاة، ولهذا قاتل الصديق رضي الله تعالى عنه مانعي الزكاة. فإن أراد أن حكمهما واحدٌ في المقاتلة فمسلم، وإن أراد في القتل فممنوعٌ؛ لأن الممتنع من الزكاة يمكن أن تؤخذ منه قهرًا بخلاف الصلاة، أما إذا انتصب صاحب الزكاة للقتال لمنع الزكاة فإنه يقاتل، وبهذه الطريقة قاتل الصديق رضي الله تعالى عنه مانعي الزكاة، ولم يُنقل أنه قَتَلَ أحدًا منهم صبرًا. اهـ.
الصفحة 182
544