كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)
اختياريًا، فالإيمان أيضًا فعلٌ اختياري، ووجه الإشارة أنه قصرَ الإيمانَ على العمل، أي أن الإيمان مقصورٌ على كونه عملًا لا يتجاوزَ إلى صفة أخرى، من كونه علمًا أو غيره، ولا شك في أنه عملُ القلب، وأما من فسره بالمعرفة، فأراد بها ما تستوجبُ العمل، ولا ما تجامعُ الجحود، كما مرّ ولو كان غرضُ المصنف رحمه الله تعالى ما فَهِمُوه لقال: إن الإيمانَ عملٌ بدون القصر، لأن القصرَ إما قصر قلب أو إفراد ولا يصح واحدٌ منهما؛ لأن المعنى على الأول: أن الإيمانَ عملٌ ليس بقول، وعلى الثاني: أنه عملٌ وليس بمجموع القول والعمل، وكلاهما خلافُ المراد. وأما قصر التعيين فلا يحتملُه المقام. ومنه ظهرت المناسبة بين الآيات، والحديث، والترجمة، فإنها أطلقت العمل على الإيمان، بمعنى أن الإيمانَ من أكبر الأعمال، لا أن قوله تعالى: {بِمَا تَعْمَلُونَ} منحصرٌ في الإيمان، وكذا سُئل النبي صلى الله عليه وسلّم عن الأعمال، وأجاب بالإيمان، فاتَّضَحَ أن الإيمانَ عملٌ.
19 - باب إِذَا لَمْ يَكُنِ الإِسْلاَمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَانَ عَلَى الاِسْتِسْلاَمِ أَوِ الْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] فَإِذَا كَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].
قالوا: إن هذا الباب كأنه دفع دَخَلٌ مُقدَّر، وهو أنك ادّعيت أن الإسلام والإيمان واحدٌ، مع أن الآيات والأحاديث، تدل على تغايرهما، فأجاب أَن الإسلام على نحوين: الإسلام حقيقة أي شرعًا، وهو المعتبرُ، وهو عينُ الإيمان. والثاني: الإسلام لغةً وهو غيرَ معتبر في الشرع، وهذا الذي أريد في قوله تعالى: {وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} لأن الآية عنده في حقِ المنافقين كما صرح به في التفسير، وحينئذٍ لم تكن عندهم حقيقة الإسلام، وإنما جيء في الآية بلفظ الإسلام على معنى الاستسلام، وليس على حقيقتهِ، فدعوى الاتحاد إنما هو في الإيمان والإسلام المعتبر، أما الإسلامُ غير المعتبر، فهو غير الإيمان قطعًا، وفي عقيدة السفاريني: أن الإسلامَ من خوف القتل لا يُعتبر عند البخاري، ولعله أخذه من هذه الترجمة.
قلت: وإن كان يتضح منه الدَّخْلُ ودفعه غاية وضوح، فإنه إذا لم يعتبر إسلامَ الخائفِ من القتل، كيف يحكمُ عليه بأن إسلامَه عينُ الإيمان، فلا جَرَمَ يكون مغايرًا للإيمان، أما الإسلام الذي هو عينُ الإيمان، فهو ما يكون من طوع ورغبة قلب، بدون خوف، ولكنه كلام باطلٌ، لأنا نجدُ أقوامًا أسلموا من خوف القتلِ ثم اعتبر النبي صلى الله عليه وسلّم إسلامَهم، نحو إسلام قوم لم يُحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صبأنا، صبأنا فقتلهم خالد ولم يعتبر إسلامَهم، ولما بلغ خبرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلّم رفع يديه وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد»، فهذا صريح في أنه اعتبر إسلامهم، وعلى هذا فنِسبةُ هذا الكلام الباطل إلى المصنف رحمه الله تعالى لا يستقيمُ بحال.
وعندي: غرضُه من هذه الترجمة الفرقُ بين الإسلام المعتبر، وغير المعتبر، لا دفع
الصفحة 184
544