كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)
الدَّخلَ، وحاصله: أن الإسلام قد يكون حكاية، وإسميًا، ورسميًا، وانتحالًا. بدون استشعار القلب، وهو غير معتبر وغير مُنجي، واستدل عليه بقوله تعالى: {قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا} ... إلخ أي هم يدّعون أالإسلام رَسَخَ في بواطنهم وليس كذلك، وإنما عندهم اسم الإسلام، والحكاية، بدون المحكي عنه، وهذا غير معتبر وقد يكونُ الإسلام عن جذر قلب وصدق نية لا حكاية فقط، فهو المرضي عند الله تعالى. وهو المنجي حقيقة، كما قال: {إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَمُ} فجعل الإسلامَ دينًا مرضيًا، وعلى هذا قوله: على الحقيقة ليس مقابِلًا للمجاز، كما فهموه، بل معناه في نفس الأمر. وإذا لم يكن الإسلامُ على الحقيقة بذلك المعنى، يكون حكائيًا واسميًا لا حقيقة له في نفس الأمر.
(أو كان على الاستسلام) من السلم أي الصلح، فمعناه الإسلام صلحًا، يعني على طريق المصالحة مجبورًا، وادِّعاءًا فقط دون الواقع، والاستفعالُ فيه بمعنى الإتيان بشيء بدون سماحة نفس، بل عن كُرْه، وسَخَطٍ في الباطن، وهو أيضًا من خواصِّ هذا الباب، لأني أجدُ فيه هذا المعنى في مواضع، وإن لم يذكره علماء التصريف، كما في قوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَبِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآء} [المائدة: 44] أي أنهم لم يحملوا كتاب الله ولم يحفظوه برغبةٍ، وطواعيةِ نفس، ولكنه حمل عليهم حفظه على كره، ولهذا المعنى جيء بالاستحفاظ ههنا، كاستأسر أي عدُّ نفسه أسيرًا مجبورًا. يقال: استأسر الرجل إذا أُخِذ في جريرةِ فيسلم إليه نفسه مجبورًا، وكما في قولهم:
إن البغاث بأرضنا يستنسر
مع أنه ليس بنسر، فاستسلم، معناه: أسلم، وليس بمسلم، وقد علمت أن المصنف لم يتعرض إلى دفع السؤال الناشىء من الآية، فإن التقرير المذكور لا يدفع السؤال المذكور، فإن اللإسلام واقعيًا كان أو حكائيًا إلا أن القرآن أباح لهم أن يقولوا: أسلمنا، وإن نفى عنهم اسم الإيمان، فالسؤال باق، ولكنه تعرض إلى المعتبر من الإسلام وغير المعتبر منه.
ولم يدخل في مسألة اتحاد الإيمان والإسلام في تلك الترجمة وإنما تعرض إليها في ترجمة تأتي، وإنما يتبادر دخوله في تلك المسألة من جهة الآية، فإنها تفرق بين الإيمان، والإسلام، والمصنف قائل بالاتحاد، فخيِّلَ أنه توجه فيها إلى جوابه، والظاهر أنه أراد هُهنا بيانَ الفرق بين المعتبر من الإسلام، وغيره فقط، وإنما يتردد النظر في شرح تراجمه، لأنه كثيرًا ما يذكر الشرط، ويحذف الجواب من الترجمة، ويُخرِجُ مادته في الحديث المترجم له، فكأن السؤال يكون في الترجمة، والجواب في الحديث، وإذًا يكونُ الحديثُ محتمِلًا للوجوه، يُحدثُ الترددَ، أنه ماذا أراد؟ كما ترى ههنا (¬1).
(أو الخوف من القتل) واعلم أن فيه أحوالًا: فمن أسلم كَرْها مع السخط في الباطن فهو
¬__________
(¬1) وكنت أسمع من شرح هذه الترجمة على النحو الذي شرحوا بها أيضًا، إلا أني وجدت فيما كتبت عن الشيخ على خلاف شروحهم، رأيته ألطف فجعلته أصلًا ولكنه سقط منها بعض شيء فانخرم المراد، فعليك أن تتفكر فيه.
الصفحة 185
544