كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)

وإطلاق اسم الإيمان في حقه، قلت: هو كذلك، وإنما منعه إصلاحًا له وتنبيهًا على أنه لا ينبغي المبادرة في مثل تلك الأمور الباطنة التي قد تخفى على الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام أيضًا، سيما بحضرة صاحب الوحي، وإن كان صحيحًا في خصوص هذا الموضع فلو كان صوبه ههنًا، ولم يمنعه لأمكن أن يستعمله في موضع آخر أيضًا لا يكون محلًا له، فمنعه مطلقًا سدًا للباب، ولم ينظر إلى خصوصِ المقام.
فإطلاق أحب الألقاب إلى الله تعالى بدون رؤية وروية هو مورِدُ النكيرِ فقط، وليس المرادُ ذم الصحابي المذكور، فإنه ذو منقبةٍ ومكان، ورتبةٍ عند الله، وعند رسوله، وهذا كما قالت عائشة رضي الله عنها لولد مات: طُوْبَى له عصفورٌ من عصافير الجنةِ قال: مهلًا يا عائشة، وقد كان هذا ولدًا لأنصاري، ومعلوم أن أولاد المسلمينَ كلهم في الجنة، وإنما الاختلاف في أولاد المشركين، فهذا أيضًا إصلاح كالقاعدة الكلية، أي الجزمُ بأمور الغيب قبل العلم بها مما لا يُنَاسب مطلقًا، فكيف محضرٍ من صاحب الشريعة وهو أعلم، فينبغي أن يترقب ماذا يُلقى إليه من جانبه، ثم يتلقاه منه، لا أنه يتبادر فيفْتَات عليه، ولذا ترى الصحابة رضي الله تعالى عنهم أكثر ما يجيبونه بقولهم: الله ورسوله أعلم، ويتضح عندك مراده كل الاتضاح مما قيل في الفارسية. خطا اكرراست آيدتاهم خطاست وفي الحديث أيضًا «من فسر القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ» وغَفَلَ بعضهم عن هذا المعنى فجعل يأولُ في قصة عائشة رضي الله تعالى عنهما، وقال: لعل الولد كان من المشركين، ثم لما مرّ على الروايات ورأى أنه كان ولدًا للأنصاري، ركب تأويلًا آخر باطلًا، وقال: إنه كان أنصاريًا نسبًا وقومًا فقط، وهذا كله كما ترى لعدم البلوغ إلى حقيقة المراد. أما المصنف رحمه الله تعالى فاستشهد بقوله فيه «أو مسلمًا» فإنه دالٌ على تغاير بين الإيمان والإسلام في الجملة؛ فإنه نفى عنه اسم المؤمن، مع إثباتِ لقب المسلم، فثبتت الترجمة.

20 - باب إِفْشَاءُ السَّلاَمِ مِنَ الإِسْلاَمِ
وَقَالَ عَمَّارٌ ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ.
28 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِى حَبِيبٍ عَنْ أَبِى الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَىُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ قَالَ «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ». طرفاه 12، 6236 - تحفة 8927
وإفشاؤُه نشرُه سِرًا وجهرًا على مَنْ تَعْرف ومن لم تعرف. والمصنف رحمه الله تعالى في مثله يتبع ألفاظ الحديث، فإن كان الحديث جعل أمرًا «من الإسلام» يترجم المصنف رحمه الله تعالى أيضًا بذلك، وإذا كان جعله «من الإيمان» يتبعه أيضًا، فتارةً يقول: «من الإسلام» وأخرى: «من الإيمان» لهذه النكتة وليس لمجرد التفنن في العبارة.
قوله: (الإنصاف من نفسك) يعني عن داعية نفس بلا رياءٍ أو حكم حاكم، وهذا إنصاف صادر من طبعه، وحينئذٍ يكون حرف «من» ابتدائية، والنفس فاعلًا معنى، ويمكن أن يكون معناه

الصفحة 187