كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)

إجراءُ الإنصاف في معاملة نفسِهِ أيضًا، وحينئذٍ تكون النفس مفعولًا (للعالم) بالفتح، أي جميع الناس (من الإقتار) أي الافتقار، و «من» بمعنى «في» كما ذكره العيني رحمه الله تعالى، أو بمعنى عند ومع، كما اختاره الحافظ رحمه الله تعالى، فالإنصاف خُلُقٌ، والإنفاقُ يتعلق بحقوق الأموالِ، وإفشاءُ السلامِ أمرٌ بين الأمرين، والإيمانُ مجموعُ الثلاثة.

21 - باب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ
فِيهِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -.
29 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ». قِيلَ أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ قَالَ «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ». أطرافه 431، 748، 1052، 3202، 5197 - تحفة 5977
واعلم: أنّ هذه الترجمة أيضًا من التراجم المشكلة عندي، والجملةُ الأخيرةُ مرفوعٌ أي إعرابًا، وإعرابُها حكائي عندي، لأنه قول عَطَاء بن أبي رَبَاح، ونقل نحوه عند ابن كثير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في تفسير قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفِرُونَ} أي بكفرٍ دون كفر. ولعل الحافظ رحمه الله تعالى لم يُدركه ولذا نسبه إلى عطاء، ولو أدركَهُ لنسبه إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنه، لأن عطاء تلميذ له، ولذا أظنُ أن عطاءَ لعله تعلَّمَه منه؛ فأصله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه فاعلمه. قال الحافظ (¬1): «دون» بمعنى أقرب، واختاره. وقيل: بمعنى غير، وجعله مرجوحًا.
¬__________
(¬1) قلت: ولم أجدْه في "الفتح" من هذا الباب، ولكنه ذكره العيني في "العمدة" قال معناه وكفر أقرب من كفر، ثم قال: وتحقيق ذلك ما قاله الأزهري الكفر بالله أنواع: إكفار وجحودٌ وعِنَادٌ ونفاق، ثم فصلها، قال الأزهري ويكون الكفرُ بمعنى البراءة، كقوله تعالى حكاية عن الشيطان {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22] أي تبرأت. قال وأما الكفرُ الذي هو دون ما ذكرنا، فالرجل يقرُ بالوحدانية والنبوة بلسانه، ويعتقد ذلك بقلبه، لكنه يرتكبُ الكبائر من القتل، والسعي في الأرض بالفساد، ومنازعة الأمر أهله، وشق عصا المسلمين ونحو ذلك. انتهى. وقد أطلق الشارع الكفرَ على ما سوى الأربعة، وهو كفران الحقوق والنِّعم لهذا الحديث ونحوه، وهذا مراده من قوله: "وكفر دون كفر" وفي بعض الأصول: وكفر بعد كفر وهو بمعنى الأول، انتهى مع اختصار.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله وخَصَّ كفرانَ العشير من بين أنواع الذنوب لدقيقة بديعة وهي قوله - صلى الله عليه وسلم -. "لو أمرت أحدًا أن يسجدَ لأحد، لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها" فقرن حق الزوج على الزوجة بحق الله، فإذا كَفَرت المرأة حقَ زوجها وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية، كان ذلك دليلًا على تهاونها بحق الله، فلذلك يُطلق عليها الكفر، لكنه كفر لا يخرج عن الملة، ويؤخذ من كلامه مناسبة هذه الترجمة لأمور الإيمان، وذلك من جهة كون الكفر ضد الإِيمان. اهـ. ولا ريب أن تلك النكتة بديعةٌ جدًا. ثمَّ راجعت "الفتح" من باب ظلم دون ظلم فوجدتُ فيه ما ذكره الشيخ رحمه الله. قال الحافظ "دون" يُحتمل أن تكونَ بمعنى غير، أي أنواع الظلم مُتغايرة، أو بمعنى الأدنى، أي بعضها أخف من بعض وهو أظهر في مقصود المصنف رحمه الله. انتهى. فلله الحمد.

الصفحة 188