كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)

إقامة المراتب، فالكفر على هذا نوعٌ واحدٌ، تحته مراتب، بعضها أخف من بعض.
أقول: إن هذه الترجمة لا تبتنى على تحقيق الحافظ ابن تيمية رحمه الله وإن كان تحقيقه جيدًا، ولكن المصنف رحمه الله فيما أرى لم يُشر إليه، وكذلك «دون» في ترجمته بمعنى غير، على خلاف ما فهمه الحافظ رحمه الله، والوجه عندي أن المصنف رحمه الله استعمل هذا اللفظ في مواضع عديدة ومعناه هناك «غير» قطعًا، منها «باب من خص قومًا دون قوم بالعلم» أي سوّى قوم، وكذا أشار إليه الحديث أيضًا فإنه جعل الكفرَ نوعين، فالأول كفر بالله، والثاني كفران بالعشير، فجعله متغايرًا بالمتعلَّقاتِ ولم يقم فيه المراتب كما تقول: تَصَورٌ فقط، وتصور معه حكم، فهذان نوعان للعلم، كذلك الكفر أيضًا نوعان: كفرٌ بالله، وكفران بالعشير، فهو كفرٌ غير كفر، كمغايرة النوع بالنوع.
ويمشي على هذا التقدير تقرير القاضي أيضًا، لأن كونَ كفر مغايرًا لكفرٍ آخر لا ينافي إقامةُ المراتب، بل هذا أولى مما قالوه، فإن الكفر إنْ جعلناه نوعًا واحدًا كما قالوه يلزمُ إثباتُ الأحكام المختلفة لأفراد نوعٍ واحد، وهو مستبعد بخلاف ما إذا جعلناه أنواعًا وغايرنا في أحكام الأنواع، فنوع منه موجبٌ للخلود، ونوع آخر للفسوق، كان على طريقٍ معروف ولم يكن فيه بعد، فلما كان تقريرهُ يمشي على هذا التقدير مع ملاءمته بكلام المصنف رحمه الله تعالى في مواضعَ أخرى، وإيماء الحديث إليه فالحمل إليه أولى، وينجلي الأمر مما في قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] لأنهم اتفقوا أن «دون» فيها ليست بمعنى أقرب، بل بمعنى غير، فلذا جزمت أن «دون» ههنا بمعنى غير لا بمعنى أقرب، كما شرحوا به، فالمصنف رحمه الله تعالى عندي ليس بصدد بيان تقارب الكفر بالكفر، ولا بشرح الأحاديث التي أُطلق فيها الكفر على المعصية، كما ذهب إليه القاضي بل بصدد بيان التنوع فيه، وتؤيده نُسخة أخرى نقلها الشيخ العيني رحمه الله تعالى: وكفر بعد (¬1) كفر. وقد كان يخطرُ ببالي أن طريقَ المصنف رحمه الله تعالى جمعُ الآيات المناسبة في ترجمة الباب وههنا لم يتعرض المصنف رحمه الله تعالى إلى قوله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [التوبة: 97] مع كونها صريحة في هذا المراد، ثم تبين لي أن المصنف رحمه الله تعالى إنما يريد مراتب الكفر التحتانية، وهذه تدل على الفوقانية وهي الكفر المهلك، ولما كان بين الكفرِ والكفرانِ اشتقاقًا، لم يبال باختلاف الألفاظ واستدل به على مراده، وهذا تقرير على مذاقهم.
وأما ما سنح لي فأقول: إن المصنف رحمه الله تعالى لو كان أراد إجراء التوجيه المذكور في الأحاديث، لأخرج تحت هذا الباب حديثًا من الأحاديث التي أطلقَ فيها الكفرُ على
¬__________
(¬1) قلت: ولي فيه نظر لأنها تدلُ على إقامة المراتب لا على تغايرُ الأنواع، وفي تقرير عبد العزيز وكذا في تقرير آخر عندي أن تلك النسخة كفر غير كفر ولا ريب أنها تؤيد ما ذكره الشيخ، بل تلك صريحةٌ فيه، غير أني لم أجد تلك في العيني، بل فيه لفظ: "بعد" على ما عندي من نسخة العيني قال وفي بعض الأصول: وكفر بعد كفر وهو بمعنى الأول، أي "دون" بمعنى أقرب.

الصفحة 190