كتاب وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى (اسم الجزء: 1)

الصناع فيه نتائج مبدعة من صنعة النجارة، والمحراب المذكور شبه باب نقنطر لموضع لطيف على ظهر الصندوق المذكور مكتوب في داخله أمام مستقبله بعد البسملة آية الكرسي، وعلى ظاهر الباب المقنطر بعد البسملة قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [البقرة: 144] الآية، وفيه صنعة عجيبة وصبغ باللازورد وتذهيب عجيب يشغل الخاطر، ويفرق القلب الحاضر؛ إذ لا قلب أجمع وأعلى وأرفع من قلب سيد الأنام. عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد قال في شأن الخميصة من أجل تلك الأعلام «اذهبوا بخميصتي «1» هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي» وسيأتي أنه لما قال عمر بن عبد العزيز بعد زخرفة المسجد لعمرو بن عثمان رضي الله عنه: بناؤنا أحسن أم بناؤكم؟ فقال له: بنيناه بناء المساجد، وبنيتموه بناء الكنائس.
وقال مالك فيما نقله عنه صاحب التبصرة: كره الناس ما فعل في قبلة المسجد بالمدينة من التزاويق؛ لأنه يشغل الناس في صلاتهم، وأرى أن يزال كل ما يشغل الناس عن الصلاة، وإن عظم ما كان أنفق فيه فالله تعالى يبعث لهذا المصلى الشريف من يزيل عنه هذه الزخارف ويسويه كما كان في زمن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وقد أدعم هذا المحراب الخشبي من ورائه بدعامة شبه التاج العظيم حتى اتصل بالدرابزين الذي بين الأساطين في قبلة الروضة، وبرز عنها، وجعل في أعلاه وعن يمينه وشماله مع امتداد الروضة مغارز لفرخات القناديل المسماة بالبزاقات تسرج في ليالي الزيارات، وفي داخله كسوة جليلة من الحرير من جنس كسوة الحجرة الشريفة ذات طراز منسوج، وقد احترق ذلك كله في الحريق الثاني الآتي ذكره، وذلك بعد تمام هذا التأليف، فاقتضى رأي متولي العمارة الحادثة بعد ذلك إبداله بمحراب مرخّم في دعامة تبني في محل الصندوق المذكور، فحفروا هناك لأساسها نحو القامة، فوجدوا هناك قبرا بدا لحده مسدودا باللبن أخرجوا منه بعض العظام، ووجدوا الأقدمين لما أسسوا الأسطوانة التي عنده حرفوا أساسها عنه قليلا، فتركوه على حاله، وأسسوا للمحراب المذكور، ورخموه بالرخام الملون ترخيما بديعا فيه صبغ ذهبي وغيره، وهو أبهى منظرا من الأول، وجعلوا أرض المحراب المذكور مرفعة قليلا على المصلى الشريف؛ لأنه إنما جعل في محل الصندوق الذي كان أمام المصلى الشريف، فليتنبه لذلك، والله أعلم.
تنبيهات- الأول: قال البخاري في صحيحه «باب قدركم ينبغي أن يكون بين المصلى والسترة» ثم روى عن سهل بن سعد قال: كان بين مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين الجدار ممر
__________
(1) الخميصة: ثوب أسود أو أحمر له أعلام.

الصفحة 287