كتاب وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى (اسم الجزء: 1)

المشاة، ثم روى عن سلمة- يعني: ابن الأكوع- قال: كان جدار المسجد عند المنبر ما كادت الشاة، تجوزها: أي المسافة، وهي ما بين المنبر والجدار، وقوله في الحديث الأول «كان بين مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» أي: مقامه في صلاته، وكذا هو في رواية أبي داود، وقوله: «وبين الجدار» أي: جدار المسجد مما يلي القبلة كما صرح به من طريق ابن غسان في الاعتصام، ومنه يعلم ما في قول النووي في شرح مسلم: يعني بالمصلى موضع السجود، والحديث الثاني رواه الإسماعيلي بلفظ: كان المنبر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس بينه وبين حائط القبلة إلا قدر ما تمر العنز. قال الكرماني في بيان مطابقته للتبويب: إن ذلك من حيث إنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقوم بجنب المنبر: أي ولم يكن لمسجده محراب، فيكون مسافة ما بينه وبين الجدار نظير ما بين المنبر والجدار، فكأنه قال: الذي ينبغي أن يكون بين المصلى وسترته قدر ما كان بين منبره صلّى الله عليه وسلّم وجدار القبلة.
قلت: وكأن الكرماني بنى ذلك على ما عهده في غالب المساجد من أن مصلى الإمام يكون إلى جانب المنبر، وقد تقدم بيان ما بينهما من المسافة وحكاية الإجماع على أنه لم يغير، وأيضا فلا يلزم من كونه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي إلى جانب المنبر أن يكون بينه وبين الجدار نظير ما بين المنبر والجدار كما لا يخفى، وأوضح مما ذكره- كما قال الحافظ ابن حجر- ما ذكره ابن رشد من أن البخاري أشار إلى حديث سعد بن سهل الذي في باب الصلاة على المنبر فإن فيه أنه صلّى الله عليه وسلّم «قام على المنبر حين عمل، وصلّى عليه» فاقتضى ذلك أن ما بين المنبر والجدار يؤخذ منه موضع قيام المصلى.
قلت: لكن يلزم من ذلك التأخر عند السجود؛ لأن ذلك المقدار لا يتأتى فيه السجود، وقد ثبت رجوعه صلّى الله عليه وسلّم القهقرى «1» من أجل السجود لما صلّى على المنبر لعدم تأتّيه عليه.
وقال ابن بطال: هذا أقل ما يكون بين المصلى وسترته، يعني قدر ممر الشاة، وقيل:
أقل ذلك ثلاثة أذرع؛ لحديث بلال أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «صلى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع» كما في الصحيح، وجمع الداودي بأن أقله ممر الشاة، وأكثره ثلاثة أذرع، وجمع بعضهم بأن الأول في حال القيام والقعود، والثاني في حال الركوع والسجود، قاله الحافظ ابن حجر.
قلت: ويلزمه التأخر عن موقفه الأول عندهما كما قدمناه، وهو متعين؛ إذ لا يتأتى
__________
(1) رجع القهقرى: رجع على عقبيه.

الصفحة 288