كتاب فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك (اسم الجزء: 1)

وَإِنْ وَجَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَ رَبُّهُ فِيهِ شَيْئًا إلَخْ هُوَ كَقَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ، فَلَوْ أَحْضَرَهُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَعَادَتُهُ التَّكَسُّبُ بِذَلِكَ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ بِقَدْرِ تَعَبِهِ، وَإِنْ شَاءَ رَبُّهُ تَرَكَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَادَتَهُ فَلَهُ نَفَقَتُهُ فَقَطْ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ قَوْلُهُ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ يُرِيدُ إذَا كَانَ رَبُّهُ لَا يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ اهـ.

(مَسْأَلَةٌ) قَالَ فِي نَوَازِلِ ابْنِ رُشْدٍ فِي مَسَائِلِ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَاتِ فِي رَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا دَيْنٌ عَلَى الْأُخَر فَتَنَازَعَا فَسَبَّ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ صَاحِبَ الدَّيْنِ فَطَلَبَ حَقَّهُ فِي ذَلِكَ وَأَرَادَ أَخْذَ شَهَادَةِ مَنْ حَضَرَ فَرَغِبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ فِي الْعَفْوِ فَقَالَ لِلرَّاغِبَيْنِ لَهُ فِي الْعَفْوِ اعْقِدُوا لِي عَقْدًا وَتَشْهَدُونَ فِيهِ بِمَا عِنْدَكُمْ وَلَكُمْ عِنْدِي مَا تُرِيدُونَهُ فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَشَهِدُوا لَهُ ثُمَّ اقْتَضَوْهُ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنْ الْعَفْوِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ إنَّمَا أَرَدْت بِقَوْلِي لَكُمْ عِنْدِي مَا تُرِيدُونَهُ مِنْ وَجْهِ الصُّلْحِ فِي الدَّيْنِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَبُ لَا فِي إسْقَاطِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي سَبْي فَأَجَابَ ابْنُ رُشْدٍ يَلْزَمُهُ الْعَفْوُ إنْ سَأَلُوهُ إيَّاهُ بَعْدَ أَنْ شَهِدُوا لَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَأَلُوهُ أَوَّلًا فَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ لَكُمْ عِنْدِي مَا تُرِيدُونَهُ إنْ شَهِدْتُمْ لِي فِي ظَاهِرِ أَمْرِهِ فَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا سِوَاهُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ اهـ.
فَإِنْ قِيلَ هَذَا مِنْ الِالْتِزَامِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُلْتَزَمِ لَهُ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَهُ بِمَا سَمِعُوهُ وَاجِبَةٌ.
فَالْجَوَابُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يُقَالَ لَعَلَّ الْمُلْتَزِمَ كَانَ يَعْلَمُ بِوُجُوبِ الْفِعْلِ عَلَى الْمُلْتَزَمِ لَهُمْ فَلِذَلِكَ أَلْزَمُهُ ابْنُ رُشْدٍ الِالْتِزَامَ كَمَا قَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْمَهْرِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَوْ يُقَالُ لَمَّا سَأَلَهُمْ كِتَابَةَ الشَّهَادَةِ، وَأَنْ يَعْقِدُوا لَهُ بِذَلِكَ عَقْدًا لَمْ تَكُنْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ إذَا طَلَبَهَا مِنْهُمْ لَا أَنْ يَكْتُبُوا لَهُ بِهَا عَقْدًا، أَوْ لَعَلَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَى الْجَمَاعَةِ الرَّاغِبِينَ لَهُ فِي الْعَفْوِ لِوُجُودِ غَيْرِهِمْ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ الَّتِي هِيَ الْعَفْوُ لَمَّا كَانَتْ لِغَيْرِ الْمُلْتَزِمِ وَالْمُلْتَزَمِ لَهُ صَارَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الِالْتِزَامِ الْمُعَلَّقِ عَلَى فِعْلِ غَيْرِ الْمُلْتَزِمِ وَالْمُلْتَزَمِ لَهُ وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ اللُّزُومِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الرَّابِعِ فَتَأَمَّلْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) قَالَ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ وَمِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْجَعْلِ عَلَى الْآبِقِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْجَاعِلُ وَالْمَجْعُولُ لَهُ جَاهِلَيْنِ بِمَوْضِعِهِ، فَإِنْ عَلِمَا بِمَوْضِعِهِ لَمْ يَجُزْ الْجَعْلُ، وَإِنْ عَلِمَهُ الْجَاعِلُ وَحْدَهُ كَانَ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنْ الْجَعْلِ وَأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَإِنْ عَلِمَهُ الْمَجْعُولُ لَهُ وَحْدَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَاعِلِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يُعْطَى قَدْرَ عَنَائِهِ وَقَالَهُ فِي الْمُتَيْطِيَّةِ: وَفِي قَوْلِهِ: " إذَا عَلِمَا مَوْضِعَهُ لَمْ يَجُزْ " نَظَرٌ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَوْضِعَ بَعِيدًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْجَعْلَ حِينَئِذٍ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ فِي رَسْمِ الْبَرَاءَةِ مِنْ سَمَاعِ عِيسَى مِنْ كِتَابِ الْجَعْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فَتَأَمَّلْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا إذَا جَهِلَهُ أَحَدُهُمَا وَعَلِمَهُ الْآخَرُ فَمَا ذَكَرَهُ ظَاهِرٌ وَذُكِرَ ذَلِكَ فِي رَسْمِ الْعُشُورِ مِنْ سَمَاعِ عِيسَى مِنْ كِتَابِ الْجَعْلِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى مَا إذَا عَلِمَا مَوْضِعَهُ.

الصفحة 271