كتاب فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك (اسم الجزء: 1)

فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَرَضِ أَنْ يَسْتَدِيمَ الِانْتِفَاعُ بِمَا وَهَبَهُ وَيَرَى أَثَرَ هِبَتِهِ عَلَيْهِ.
وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: قَوْلُ سَحْنُونَ يَكُونُ ذَلِكَ حَبْسًا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ بِمَا شَرَطَ مِنْ أَنْ لَا يَبِيعَ وَلَا يَهَبَ، فَإِذَا مَاتَ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ رَجَعَ ذَلِكَ مَرْجِعَ الْأَحْبَاسِ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ وَقَوْلُ سَحْنُونَ هَذَا مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ فِي نَوَازِلِهِ فِي الَّذِي يَتَصَدَّقُ عَلَى رَجُلٍ بِعَبْدٍ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَهُ وَلَا يَهَبَهُ سَنَةً، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَدْخُلُ فِي مَسْأَلَةِ سَمَاعِ سَحْنُونَ فِي الَّذِي يَتَصَدَّقُ عَلَى الرَّجُلِ بِالشَّيْءِ عَلَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ إنْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ، أَوْ بِغَيْرِ ثَمَنٍ إلَّا قَوْلَ سَحْنُونَ هَذَا اهـ.
قُلْت: يَعْنِي الْقَوْلَ بِأَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ يَكُونُ حَبْسًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ نَوَازِلِ سَحْنُونَ أَعْنِي مَنْ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَهُ وَلَا يَهَبَهُ سَنَةً ثُمَّ هُوَ لَهُ بَعْد السَّنَةِ يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ تَجْرِي فِيهَا الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا يَجْرِي فِيهَا قَوْلُ سَحْنُونَ إنَّهَا حَبْسٌ وَمِثْلُ مَسْأَلَةٍ بِرَسْمِ الْكِرَاءِ وَالْأَقْضِيَةِ مِنْ سَمَاعِ أَصْبَغَ فِيمَنْ تَصَدَّقَ عَلَى رَجُلٍ بِعَبْدٍ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَخْدُمَهُ يَوْمَيْنِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِيهَا لَيْسَتْ بِصَدَقَةٍ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ إنَّمَا رَأَى أَنَّ الشَّرْطَ يُفْسِدُ الصَّدَقَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ مِنْ خِدْمَتِهِ يَوْمَيْنِ كُلَّ جُمُعَةٍ، فَقَدْ حَجَرَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفَ فِي صَدَقَتِهِ بِالسَّفَرِ بِهَا وَالْوَطْءِ لَهَا إنْ كَانَتْ أَمَةً وَالتَّفْوِيتِ فَصَارَ كَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ وَشَرَطَ عَلَى الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَ وَلَا يَهَبَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحَبْسُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ جَازَ فِيهِ هَذَا الشَّرْطُ عَلَى مَا فِي سَمَاعِ أَبِي زَيْدٍ وَأَجَازَ ابْنُ كِنَانَةَ هَذَا الشَّرْطَ فِي الْحَبْسِ وَالصَّدَقَةِ وَقَالَ إنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّدَقَةَ بَلْ يَشُدُّهَا.
وَالْمَعْنَى عِنْدِي فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَنَّهُ رَآهُ شَرِيكًا مَعَهُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ بِمَا اسْتَثْنَى لِنَفْسِهِ مِنْ خِدْمَتِهِ وَلِذَلِكَ أَجَازَهُ فِي الصَّدَقَةِ وَالْحَبْسِ اهـ. فَأَشَارَ إلَى أَنَّهَا كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى تَجْرِي فِيهَا الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ.
قُلْت: وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ الْجَارِي عَلَى مَذْهَبِ الْمُدَوَّنَةِ صِحَّةُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَبُطْلَانُ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّحْجِيرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْءُ الْأَمَةِ؟ فَالظَّاهِرُ بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَقَالَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ وَهَبَ لِرَجُلٍ هِبَةً عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ وَلَا يَهَبَ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَفِيهًا، أَوْ صَغِيرًا فَيُشْتَرَطُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ، وَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الْوِلَايَةِ لَمْ يَجُزْ كَانَ وَلَدَ الْوَاهِبِ أَوْ أَجْنَبِيًّا اهـ. فَتَكَلَّمَ عَلَى الْحُكْمِ ابْتِدَاءً، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْحُكْمَ بَعْدَ الْوُقُوعِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الصَّغِيرُ اُنْظُرْ بِمَاذَا يُفَسِّرُ الْكِتَابُ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ مَا فِي الْعُتْبِيَّةِ أَنَّهُ يُخَيَّرُ الْوَاهِبُ، فَإِنْ بَتَلَهَا وَإِلَّا نُقِضَتْ اهـ.
وَالْقَوْلُ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ رُشْدٍ اخْتَارَهُ اللَّخْمِيُّ أَيْضًا وَوَجَّهَهُ بِمَا وَجَّهَهُ بِهِ ابْنُ رُشْدٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ لَهُ وَجْهًا مِنْ النَّظَرِ ظَاهِرًا لَكِنَّ الْأَظْهَرَ عِنْدِي بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَصِحَّةُ الْعَقْدِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) قَالَ الْمَشَذَّالِيُّ قَوْلُهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَفِيهًا أَوْ صَغِيرًا قَالَ أَبُو عِمْرَانَ اُنْظُرْ مَا مَعْنَاهُ وَالسَّفِيهُ وَالصَّغِيرُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا وَلَا هِبَتُهُمَا بِشَرْطٍ أَمْ لَا قَالَ قَالَ أَبُو عِمْرَانَ لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يُبَاعَ عَلَيْهِ إذَا احْتَاجَ إلَى النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ لِوَلِيِّهِ بَيْعُ عُرُوضِهِ لِلنَّفَقَةِ بِشَرْطِ أَنْ لَا تُبَاعَ، وَيُبَاعُ غَيْرُهَا إنْ وُجِدَ قَالَ الْقَابِسِيُّ الْهِبَةُ جَائِزَةٌ وَهِيَ كَالْحَبْسِ الْمُعَيَّنِ، وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً لِسَفِيهٍ أَوْ يَتِيمٍ وَشَرَطَ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ مُطْلَقَةً عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا نَظَرَ لِوَصِيِّهِ فِيهَا نُفِّذَ ذَلِكَ الشَّرْطُ اهـ.
قُلْت: فِي هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ إضَاعَةَ الْمَالِ لَا تَجُوزُ وَإِطْلَاقَ يَدِ السَّفِيهِ عَلَى الْمَالِ إضَاعَةٌ لَهُ فَتَأَمَّلْهُ، وَالصَّوَابُ بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَرْعٌ) قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي رَسْمِ الْجَوَابِ مِنْ سَمَاعِ عِيسَى مِنْ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ فِيمَنْ تَصَدَّقَ بِجَارِيَتِهِ عَلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَهَا أُمَّ وَلَدٍ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا عَلَى الشَّرْطِ، وَإِنْ وَطِئَهَا فَهِيَ لَهُ حَمَلَتْ، أَوْ لَمْ تَحْمِلْ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ يَعْنِي لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يُوقِفَ الْمُتَصَدِّقُ إمَّا أَسْقَطَ

الصفحة 371