كتاب فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك (اسم الجزء: 1)

وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا دَخَلَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ مَعْصُومُ الدَّمِ وَالْمَالِ، وَالدَّارُ مَعْدُومَةٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِنَا إنَّ الْإِسْلَامَ عَاصِمٌ لِلنَّفْسِ دُونَ الْوَلَدِ وَالْمَالِ وَقَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ التَّحَرُّزَ وَالتَّعَصُّمَ يَكُونُ بِالْقِلَاعِ فَكَلَامٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِالْعِصْمَةِ الْحِسِّيَّةِ الَّتِي يَكْتَسِبُهَا الْكَافِرُ وَالْمُحَارِبُ وَلَا يَعْتَبِرُهَا الشَّرْعُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى مَا يَعْتَبِرُهُ الشَّرْعُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحَارِبَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ يَتَحَصَّنَانِ بِالْقِلَاعِ وَدَمُهُمَا وَأَمْوَالُهُمَا مُبَاحَانِ أَحَدُهُمَا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالثَّانِي بِشَرْطَيْنِ أَنْ يَسْتَقِرَّ وَلَا يَقَعَ وَيَتَمَادَى وَيَتَمَنَّعَ وَلَكِنَّ الْمَالَ إنَّمَا يَمْنَعُهُ إحْرَازُ صَاحِبِهِ لَهُ بِكَوْنِهِ مَعَهُ فِي حِرْزٍ.
قُلْت: بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ أَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ حَسْبَمَا تَضَمَّنَ كَلَامُهُ الْآنَ. وَبِقَوْلِ مَالِكٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ رُشْدٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ.
وَأَجْرَى الْفَقِيهُ الْقَاضِي الشَّهِيرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحَاجِّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَالَ هَذَا الْمُسْلِمِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ الْمُقِيمِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَبْرَحْ عَنْهَا بَعْدَ اسْتِيلَاءِ الطَّاغِيَةِ عَلَيْهَا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي مَالِ مَنْ أَسْلَمَ وَأَقَامَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ فَرَّقَ ابْنِ الْحَاجِّ بَعْدَ الْإِلْحَاقِ وَالتَّسْوِيَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ اللَّاحِقَةِ بِأَنَّ مَالَ مَنْ أَسْلَمَ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ إسْلَامِهِ بِخِلَافِ مَالِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَمْ تَزَلْ وَلَا يُعْزَى لَهُ فِي وَقْتِ مَا كَفَرَ مُبِيحٌ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَمَا لِلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمَا مِنْ سَبِيلٍ، وَهُوَ رَاجِحٌ مِنْ الْقَوْلِ وَاضِحٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ وَظَاهِرٌ عِنْدَ التَّأَمُّلِ لِمَنْشَأِ الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عَلَى مَا لَا يَخْفَى وَيُعْتَضَدُ هَذَا الْفَرْقُ بِنَصٍّ آخَرَ.

مَسْأَلَةٌ مِنْ سَمَاعِ يَحْيَى مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ وَلَفْظُهُ: وَسَأَلْته عَمَّنْ تَخَلَّفَ مِنْ أَهْلِ بَرْشِلُونَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الِارْتِحَالِ عَنْهُمْ بَعْدَ السَّنَةِ الَّتِي أُجِّلَتْ لَهُمْ يَوْمَ فُتِحَتْ فِي ارْتِحَالِهِمْ فَأَغَارَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَفَرُّدًا مِمَّا يَخَافُ مِنْ الْقَتْلِ إنْ ظَفِرَ بِهِ.
فَقَالَ: مَا أَرَاهُ إلَّا بِمَنْزِلَةِ الْمُحَارِبِ الَّذِي يَتَلَصَّصُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أُصِيبَ فَأَمْرُهُ إلَى الْإِمَامِ يَحْكُمُ فِيهِ بِمِثْلِ مَا يَحْكُمُ فِي أَهْلِ الْفَسَادِ وَالْحِرَابَةِ، وَأَمَّا مَالُهُ فَلَا أَرَاهُ لِأَحَدٍ أَصَابَهُ اهـ. مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ ابْنُ رُشْدٍ قَوْلُهُ إنَّهُمْ فِي إغَارَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحَارِبِينَ صَحِيحٌ لَا خِلَافَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا حَارَبَ سَوَاءٌ كَانَتْ حِرَابَتُهُ فِي بَلَدِ الْإِسْلَامِ، أَوْ فِي بَلَدِ الْكُفْرِ الْحُكْمُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي مَالِهِ إنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَصَابَهُ فَهُوَ خِلَافٌ ظَاهِرٌ.
قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ الَّذِي يُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ يَغْزُو الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الدَّارَ فَيُصِيبُونَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَوَلَدَهُ إذَنْ ذَلِكَ كُلُّهُ فَيْءٌ إذْ لَمْ يُفَرَّقْ فِيهَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْجَيْشُ غَنَمَ مَالَهُ وَوَلَدَهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ، أَوْ بَعْدَ خُرُوجِهِ اهـ.
قُلْت: فَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ هَذَا يُؤْذِنُ بِتَرْجِيحِ خِلَافِ مَا رَجَّحَهُ مَعَاصِرُهُ وَبَلَدِيُّهُ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحَاجِّ فِي مَالِ هَؤُلَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ وَأَوْلَادِهِمْ فَتَأَمَّلْهُ وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الشُّيُوخِ يَظْهَرُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُلْحَقَةَ بِهِمْ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَمْوَالِ جَارِيَةٌ عَلَى الْمُقِيمِينَ مَعَ النَّصَارَى الْحَرْبِيِّينَ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَرَّرَ مِنْ الْخِلَافِ وَتَمَهَّدَ مِنْ التَّرْجِيحِ ثُمَّ إنْ حَارَبُونَا مَعَ أَوْلِيَائِهِمْ تَرَجَّحَتْ حِينَئِذٍ اسْتِبَاحَةُ دِمَائِهِمْ، وَإِنْ أَعَانُوهُمْ بِالْمَالِ عَلَى قِتَالِنَا تَرَجَّحَتْ اسْتِبَاحَةُ أَمْوَالِهِمْ، وَقَدْ تَرَجَّحَ سَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ بِالِاسْتِخْلَاصِ مِنْ أَيْدِيهِمْ وانْشِبَابِهِمْ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ آمِنِينَ مِنْ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ مَعْصُومِينَ مِنْ مَعْصِيَةِ تَرْكِ الْهِجْرَةِ.
وَمَا ذَكَرْتُمْ فِي السُّؤَالِ مِنْ حُصُولِ النَّدَمِ وَالتَّسَخُّطِ لِبَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِيِّينَ إلَى دَارِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا زَعَمُوا مِنْ ضِيقِ الْمَعَاشِ وَعَدَمِ الِانْتِعَاشِ زَعْمٌ فَاسِدٌ وَتَوَهُّمٌ كَاسِدٌ فِي نَظَرِ الشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ فَلَا يَتَوَهَّمُ هَذَا الْمَعْنَى وَيَعْتَبِرُهُ وَيَجْعَلُهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ إلَّا ضَعِيفُ الْيَقِينِ بَلْ عَدِيمُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَكَيْفَ يَتَخَيَّلُ هَذَا الْمَعْنَى وَيُدْلِي بِهِ حُجَّةً فِي إسْقَاطِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَفِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَعْلَى اللَّهُ كَلِمَتَهُ مَجَالٌ رَحْبٌ لِلْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ وَالثَّقِيلِ وَالْخَفِيفِ.
وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ تَعَالَى الْبِلَادَ فَيَسْتَجِيرُ بِهَا مَنْ أَصَابَتْهُ هَذِهِ الصَّدْمَةُ

الصفحة 380