كتاب فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك (اسم الجزء: 1)

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور: 19] وقَوْله تَعَالَى {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12] ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى حُرْمَةِ الْحَسَدِ وَاحْتِقَارِ النَّاسِ وَإِرَادَةِ الْمَكْرُوهِ بِهِمْ اهـ.
وَاعْتَرَضَ هَذَا الْأَشْيَاخُ بِأَنَّ الْعَزْمَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ مَا لَهُ صُورَةٌ فِي الْخَارِجِ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَمَّا مَا لَا صُورَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ كَالِاعْتِقَادَاتِ وَضَغَائِنِ النَّفْسِ مِنْ الْحَسَدِ وَنَحْوِهِ فَلَيْسَ مِنْ صُوَرِ مَحَلِّ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ فِي نَفْسِهِ بِهِ وَقَعَ التَّكْلِيفُ فَلَا يُحْتَجُّ بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي فِيهِ وَلْيَكُنْ هَذَا آخِرَ مَا ظَهَرَ كَتْبُهُ مِنْ الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الْمُفِيدِ الْمُوَجَّهِ مِنْ قِبَلِ الْفَقِيهِ الْمُعَظَّمِ الْخَطِيبِ الْفَاضِلِ الْقُدْوَةِ الصَّالِحِ الْبَقِيَّةِ وَالْجُمْلَةِ الْفَاضِلَةِ النَّقِيَّةِ السَّيِّدِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُطْبَةَ أَدَامَ اللَّهُ تَعَالَى سُمُوَّهُ وَرُقِيَّهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَرْجَمَ هَذَا الْجَوَابُ وَيُسَمَّى بِأَسْنَى الْمَتَاجِرِ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ مَنْ غَلَبَ عَلَى وَطَنِهِ النَّصَارَى، وَلَمْ يُهَاجِرْ وَمَا يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مِنْ الْعُقُوبَاتِ وَالزَّوَاجِرِ وَاَللَّهُ أَسْأَلُ أَنْ يُنَفِّعَ بِهِ وَيُضَاعِفَ الْأَجْرَ بِسَبَبِهِ، قَالَهُ وَخَطَّهُ الْعَبْدُ الْمُسْتَغْفِرُ الْفَقِيرُ الْمُسْلِمُ عُبَيْدُ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَنْشَرِيسِيُّ وَفَقَّهَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْ كَتْبِهِ يَوْمَ الْأَحَدِ التَّاسِعَ عَشْرَ لِذِي الْقِعْدَةِ الْحَرَامِ عَامَ سَنَةٍ وَتِسْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ عَرَّفَنَا اللَّهُ خَيْرَهُ اهـ.
وَنَصُّ السُّؤَالِ الْمُجَابِ عَنْهُ بِهَذَا الْجَوَابِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ جَوَابُكُمْ يَا سَيِّدِي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْكُمْ - وَمَتَّعَ الْمُسْلِمِينَ بِحَيَاتِكُمْ فِي نَازِلَةٍ، وَهِيَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْدَلُسِيِّينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ الْأَنْدَلُسِ وَتَرَكُوا هُنَالِكَ الدُّورَ وَالْأَرْضِينَ وَالْجَنَّاتِ وَالْكُرُومَاتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأُصُولِ وَبَذَلُوا عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةً كَثِيرَةً مِنْ نَاضِّ الْمَالِ وَخَرَجُوا مِنْ تَحْتِ الْمِلَّةِ الْكَافِرَةِ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ فَرُّوا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِإِيمَانِهِمْ، وَأَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَمَا بَقِيَ بِأَيْدِيهِمْ أَوْ بِأَيْدِي بَعْضِهِمْ مِنْ الْأَمْوَالِ وَاسْتَقَرُّوا بِحَمْدِ اللَّهِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ تَحْتَ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَحُكْمِ الذِّمَّةِ الْمُسْلِمَةِ نَدِمُوا عَلَى الْهِجْرَةِ بَعْدَ حُضُورِهِمْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَسَخِطُوا وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ وَجَدُوا الْحَالَ عَلَيْهِمْ ضَيِّقَةً، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا بِدَارِ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ الْمَغْرِبُ هَذِهِ صَانَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَحَرَسَ أَوْطَانَهَا وَنَصَرَ سُلْطَانَهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّسَبُّبِ فِي طَلَبِ أَنْوَاعِ الْمَعَاشِ عَلَى الْجُمْلَةِ رِفْقًا وَلَا يُسْرًا وَلَا مُرْتَفِقًا وَلَا إلَى التَّصَرُّفِ فِي الْأَقْطَارِ أَمْنًا لَائِقًا وَصَرَّحُوا فِي هَذَا الْمَعْنَى بِأَنْوَاعٍ مِنْ قَبِيحِ الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى ضَعْفِ دِينِهِمْ وَعَدَمِ صِحَّةِ يَقِينِهِمْ فِي مُعْتَقَدِهِمْ، وَأَنَّ هَجَرْتهمْ لَمْ تَكُنْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا زَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِدُنْيَا يُصِيبُونَهَا عَاجِلًا عِنْدَ وُصُولِهِمْ جَارِيَةً عَلَى وَفْقِ أَهْوَائِهِمْ فَلَمَّا لَمْ يَجِدُوهَا وَفْقَ أَغْرَاضِهِمْ صَرَّحُوا بِذَمِّ دَارِ الْإِسْلَامِ وَشَأْنِهِ وَشَتْمِ الَّذِي كَانَ السَّبَبَ فِي هَذِهِ الْهِجْرَةِ وَسَبِّهِ وَبِمَدْحِ دَارِ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ وَالنَّدَمِ عَلَى مُفَارِقَتِهِ وَرُبَّمَا حُفِظَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ لِلْهِجْرَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ الَّتِي هِيَ هَذَا الْوَطَنُ صَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى هَاهُنَا يُهَاجَرُ مِنْ هُنَاكَ بَلْ مِنْ هَاهُنَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ إلَى هُنَاكَ.
وَعَنْ آخَرَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ إنْ جَازَ صَاحِبُ فشتالة إلَى هَذِهِ النَّوَاحِي نَسْرِ إلَيْهِ فَنَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يَرُدَّنَا إلَى هُنَاكَ يَعْنِي إلَى دَارِ الْكُفْرِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَيْضًا يَرُومُونَ أَعْمَالَ الْحِيلَةِ فِي الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْكُفْرِ وَمُعَاوَدَةِ الدُّخُولِ تَحْتَ الذِّمَّةِ الْكَافِرَةِ كَيْفَ أَمْكَنَهُمْ فَمَا الَّذِي يَلْحَقُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِثْمِ وَنَقْصِ رُتْبَةِ الدِّينِ وَالْجُرْحَةِ وَهَلْ هُمْ بِهِ مُرْتَكِبُونَ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي كَانُوا فَرُّوا مِنْهَا إنْ تَمَادَوْا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَتُوبُوا، وَلَمْ يَرْجِعُوا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَكَيْفَ بِمَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْحُصُولِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ الْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ بِالتَّصْرِيحِ بِذَلِكَ، أَوْ بِمَعْنَاهُ شَهَادَةُ أَدَبٍ أَوْ لَا حَتَّى يَتَقَدَّمَ إلَيْهِمْ بِالْوَعْظِ وَالْإِنْذَارِ عَنْ ذَلِكَ فَمَنْ تَابَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُرْجَى لَهُ قَبُولُ التَّوْبَةِ، وَمَنْ تَمَادَى عَلَيْهِ أُدِّبَ، أَوْ يَعْرِضُ عَنْهُمْ وَيَتْرُك كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ وَمَا اخْتَارَهُ فَمِنْ ثَبَتَهُ اللَّه فِي دَار الْإِسْلَام رَاضِيًا فَلَهُ نِيَّته وَأَجْره عَلَى اللَّه سُبْحَانه وَمِنْ اخْتَارَ الرُّجُوع إلَى دَار الْكُفْر وَمُعَاوَدَة الذِّمَّة الْكَافِرَة يَذْهَب إلَى سَخَط اللَّه وَمِنْ ذَمّ دَار الْإِسْلَام مِنْهُمْ صَرِيحًا، أَوْ مَعْنَى تَرَكَ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ بَيَّنُوا لَنَا

الصفحة 384