كتاب الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (اسم الجزء: 1)

وَبِالصُّعُودِ إِنْ صَعِدُوا كَمَا شَرَحْنَا ذَلِكَ عَنْهُمْ. وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مِمَّنْ يَسْتَعْمِلُ الأَخْبَارَ
ــ
(و) يَرْوُون (بالصُّعُودِ) والعُلُوِّ (إنْ صَعِدُوا) أي: إنْ أرادوا الصُعُودَ والعُلُوِّ في السند (١).
وهو راجعٌ إلى قوله: (فيُرْسِلُون) (كَمَا شَرَحْنَا) وبيَّنَّا (ذلك) الإرسال والإسنادَ حالة كونه منقولًا (عنهم) أي: عن أئمةِ الحديث ونُقالِ الأخبار بقولنا: (فجائزٌ لكُلِّ واحدٍ منهم أنْ يَنْزِلَ في بعض الرواية فيَسْمَعَ من غيره عنه بعضَ أحاديثِه ثُمَّ يُرْسِلَه عنه) ... إلخ.
(وما عَلِمْنا) ولا عَرَفْنا (أحدًا من أئمَّةِ السَّلَفِ مِمَّنْ يَستَعْمِلُ الأخبارَ) والأحاديثَ
---------------
(١) قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: (قال مسلمٌ عن الرواة: "فيُخبرون بالنُّزول فيه إنْ نزَلُوا، وبالصُّعُودِ إنْ صَعِدُوا" يُريد بذلك في الروايات والنزول فيها: هي الرواية عن الأقران وطبقة المحدّث ومَنْ دونه، أو بسَنَدٍ يُوجَدُ أعلى منه وأقل رجالًا، والصُّعودُ: الروايةُ بالسَّنَدِ العالي، والقُرْبُ فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بقِلّة عددِ رجاله، أو مِنْ إمامٍ مشهورٍ حَدَّث به.
هذا هو طريق أهل الصَّنعة ومذهبهم، وهو غاية جهدهم وحرصهم، وبمقدارِ عُلُوِّ حديث الواحد منهم .. تكثرُ الرحلةُ إليه والأخذُ عنه، مع أن له في طريق التحقيق والنظر وجهًا، وهو: أن أخبارَ الآحادِ ورواياتِ الأفراد لا تُوجبُ عِلْمًا، ولا يُقطع على مغيَّب صدقها؛ لجوازِ الغفلات والأوهام والكذب على آحاد الروَاة، لكنْ لمعرفتِهم بالصِّدْقِ ظاهرًا وشهرتِهم بالعدالة والستر غَلَبَ على الظن صحةُ حديثهِم وصِدْقُ خبرهم، فكلفنا العمل به، وقامت الحُجَّةُ بذلك بظاهر الأوامر الشرعية، ومعلوم إجماع سلف هذه الأُمّة، ومغيب أمر ذلك كلّه لله تعالى.
وتجويزُ الوهم والغلط غيرُ مستحيل في كُلِّ راو ممَّن سُمِّيَ في سند الخبر، فإذا كثروا وطال السَّنَدُ .. كَثُرَتْ مظانٌّ التجويز، وكُلَّما قَلَّ العددُ .. قَلَّتْ، حتى إنَّ من سمع الحديثَ من التابعيِّ المشهورِ عن الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم .. كان أقوى طمأنينةً بصحّة حديثه، ثم مَنْ سَمِعَه من الصحابي .. كان أعلى درجةً في قُوّة الطمأنينة، وإنْ كان الوَهَمُ والنسيانُ جائزًا على البشر، حتى إذا سَمِعَه من النبي صلى الله عليه وسلم .. ارتفعتْ أسبابُ التجويز، وانْسَدَّتْ أبوابُ احتمالات الوَهَمِ وغير ذلك؛ للقَطْع أنه عليه الصلاة والسلام لا يجوزُ عليه شيءٌ من ذلك في باب التبليغ والخبر، وأنَّ جميعَ ما يُخْبرُ به حقٌّ وصِدْق) "إكمال المعلم" (١/ ١٧٥ - ١٧٦).

الصفحة 524