كتاب البهجة في شرح التحفة (اسم الجزء: 1)

بالتقوى والاستقامة الَّذِي أخبر عَنهُ تَعَالَى بقوله: وَقَلِيل من عبَادي الشكُور} (سبأ: 13) وَقَوله تَعَالَى: إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَقَلِيل مَا هم} (ص: 24) فَلَا يبلغ العَبْد حَقِيقَة الشُّكْر شرعا إِلَّا بِكَمَال التَّقْوَى والاستقامة الظَّاهِرَة والباطنة أما المخلط فِي أَحْوَاله فَلم يؤد مَا وَجب عَلَيْهِ من الشُّكْر بِتَمَامِهِ نعم الطَّاعَة الصادرة مِنْهُ هِيَ بعض مَا وَجب عَلَيْهِ من الشُّكْر، وَلما لم يكن المخلط مُؤديا مَا وَجب عَلَيْهِ وَكَانَ الْكثير من النَّاس مخلطاً قَالَ تَعَالَى: وَقَلِيل من عبَادي الشكُور} الخ. إِذْ المُرَاد بِصَرْف الْجَمِيع أَن لَا يخرج العَبْد عَن طَاعَة مَوْلَاهُ بِأَن تسلم جوارحه كلهَا من مُخَالفَة أمره وَنَهْيه فِي جَمِيع الْأَوْقَات فَلَا يكون شاكراً لنعم الله تَعَالَى شكرا حَقِيقِيًّا إِلَّا بِصَرْف الْجَمِيع، وَالْعَبْد لَا يَخْلُو عَن نعم الله طرفَة عين، وَعَن ذَلِك أفْصح الْجُنَيْد رَضِي الله عَنهُ بقوله: الشُّكْر أَن لَا يعْصى الله بنعمه، أَي جوارحه لِأَنَّهَا نعْمَة من الله عَلَيْهِ قَالَ هَذِه القولة فِي صباه. وبأدنى تَأمل يعلم أَن النّسَب سِتّ إِذْ بَين كل وَاحِد من الثَّلَاثَة وَالشُّكْر عرفا الْعُمُوم وَالْخُصُوص بِإِطْلَاق، فَهَذِهِ ثَلَاث نسب، وَبَين الْحَمد لُغَة وَالْحَمْد عرفا وَالشُّكْر لُغَة الْعُمُوم وَالْخُصُوص من وَجه وَبَين الْحَمد عرفا وَالشُّكْر لُغَة الترادف، فَهَذِهِ ثَلَاثَة أخر وَقد نظم ذَلِك الشَّيْخ (عج) رَحمَه الله بقوله: إِذا نسبا للحمد وَالشُّكْر رمتها بِوَجْه لَهُ عقل اللبيب يؤالف فَشكر لَدَى عرف أخص جَمِيعهَا وَفِي لُغَة للحمد عرفا يرادف عُمُوم لوجه فِي سوى ذين نِسْبَة فذي نسب سِتّ لمن هُوَ عَارِف وأل فِي الْحَمد للاستغراق وَهِي الَّتِي يصلح فِي موضعهَا كل نَحْو: إِن الْإِنْسَان لفي خسر} (الْعَصْر: 2) وَذَلِكَ لِأَن الْحَمد إِمَّا قديم وَهُوَ حمد الله تَعَالَى لنَفسِهِ أَو لمن شَاءَ من خلقه، أَو حَادث وَهُوَ حمد الْعباد لرَبهم سُبْحَانَهُ أَو لبَعْضهِم بَعْضًا، فالقديم صفته وَوَصفه والحادث خلقه وَملكه فَالْحَمْد كُله لَهُ، وَقيل للْجِنْس لِأَن جنس الْحَمد إِذا ثَبت لله ثَبت لَهُ جَمِيع أَفْرَاده فمؤداهما وَاحِد، وَقيل للْعهد لِأَن الله سُبْحَانَهُ لما علم عجز خلقه عَمَّا يسْتَحقّهُ من الْحَمد حمد نَفسه بِنَفسِهِ فِي أزله قبل وجود خلقه ثمَّ لما أوجدهم أَمرهم أَن يحمدوه بذلك. وَلَام لله للاستحقاق أَي جَمِيع المحامد مُسْتَحقَّة لله تَعَالَى، وَلَا يَصح كَونهَا للْملك لِأَن من أَقسَام الْحَمد حمد الله تَعَالَى لنَفسِهِ أَو لمن شَاءَ من خلقه فِي أزله كَقَوْلِه: نعم العَبْد وَنَحْوه، وحمده لنَفسِهِ أَو لخلقه بِكَلَامِهِ وَكَلَامه قديم، وَالْقَدِيم لَا يَصح أَن يملك فَتعين كَونهَا للاستحقاق أَي يسْتَحق الْوَصْف بِكُل جميل لكَونه وَاجِبا لَهُ لَا يتَصَوَّر فِي الْعقل عَدمه. وَاسم الْجَلالَة علم على الذَّات الْوَاجِب الْوُجُود الْمُسْتَحق لجَمِيع المحامد وَهُوَ أشهر أَسْمَائِهِ تَعَالَى، قيل: إِنَّه اسْم الله الْأَعْظَم الَّذِي إِذا سُئِلَ بِهِ أعْطى وَإِذا دعِي بِهِ أجَاب إِذا وجد شَرطه وَهُوَ التَّقْوَى، وَلذَا قبض الله تَعَالَى عَنهُ الألسن فَلم يتسم بِهِ أحد قَالَ تَعَالَى: هَل تعلم لَهُ سمياً} (مَرْيَم: 56) أَي هَل تعلم أحدا من الْمَخْلُوقَات سمي الله؟ والاستفهام بِمَعْنى النَّفْي أَي لم يتسم بِهِ غَيره وَهُوَ أعرف المعارف قَالَه سِيبَوَيْهٍ. (الَّذِي) نعت لله (يَقضي) بِفَتْح الْيَاء صلته والرابط ضمير يعود على الله (وَلَا يُقضى) بِضَم الْيَاء مَبْنِيا للْمَفْعُول (عَلَيْهِ) يتَعَلَّق بِهِ، وَالْجُمْلَة معطوفة على الصِّلَة والمعطوف على الصِّلَة صلَة أَيْضا، وَمَعْنَاهُ يحكم وَلَا يحكم عَلَيْهِ أَي وكل قَاض وحاكم

الصفحة 15