كتاب المغني لابن قدامة ط مكتبة القاهرة (اسم الجزء: 1)

[كِتَابُ الطَّهَارَةِ] [بَابُ مَا تَكُونُ بِهِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْمَاءِ]
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بَابُ مَا تَكُونُ بِهِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْمَاءِ، التَّقْدِيرُ: هَذَا بَابُ مَا تَكُونُ بِهِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْمَاءِ، فَحَذَفَ الْمُبْتَدَأَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَقَوْلُهُ " مَا تَكُونُ الطَّهَارَةُ بِهِ "، أَيْ تَحْصُلُ وَتَحْدُثُ، وَهِيَ هَاهُنَا تَامَّةٌ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إلَى خَبَرٍ.
وَمَتَى كَانَتْ تَامَّةً كَانَتْ بِمَعْنَى الْحَدَثِ وَالْحُصُولِ، تَقُولُ: كَانَ الْأَمْرُ، أَيْ حَدَثَ وَوَقَعَ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: ٢٨٠] أَيْ: إنْ وُجِدَ ذُو عُسْرَةٍ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ
إذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَأَدْفِئُونِي ... فَإِنَّ الشَّيْخَ يُهْرِمُهُ الشِّتَاءُ
أَيْ إذَا جَاءَ الشِّتَاءُ. وَفِي نُسْخَةٍ مَقْرُوءَةٍ عَلَى ابْنِ عَقِيلٍ: (بَابُ مَا تَجُوزُ بِهِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْمَاءِ) وَمَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ.
وَالطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّزَاهَةُ عَنْ الْأَقْذَارِ، وَفِي الشَّرْعِ: رَفْعُ مَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ، أَوْ رَفْعُ حُكْمِهِ بِالتُّرَابِ.
فَعِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ الطَّهَارَةِ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ أَوْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَوْضُوعِ الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَالَهُ مَوْضُوعٌ شَرْعِيٌّ وَلُغَوِيٌّ، إنَّمَا يَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ مِنْهُ إلَى الْمَوْضُوعِ الشَّرْعِيِّ كَالْوُضُوءِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ التَّكَلُّمُ بِمَوْضُوعَاتِهِ.
وَالطُّهُورُ - بِضَمِّ الطَّاءِ -: الْمَصْدَرُ، قَالَهُ الْيَزِيدِيُّ وَالطَّهُورُ - بِالْفَتْحِ - مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَعَدِّيَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُطَهِّرُ غَيْرَهُ، مِثْلُ الْغَسُولِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ اللَّازِمَةِ، بِمَعْنَى الطَّاهِرِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ فِي التَّعَدِّي وَاللُّزُومِ، فَمَا كَانَ فَاعِلُهُ لَازِمًا كَانَ فَعُولُهُ لَازِمًا.
بِدَلِيلِ قَاعِدٍ وَقَعُودٍ، وَنَائِمٍ وَنَئُومٍ، وَضَارِبٍ وَضَرُوبٍ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: ١١] ، وَرَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي؛ نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَرَادَ بِهِ الطَّاهِرَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَزِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ.
وَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَنْ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الطَّهُورُ مُتَعَدِّيًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَوَابًا لِلْقَوْمِ، حَيْثُ سَأَلُوهُ عَنْ التَّعَدِّي، إذْ لَيْسَ كُلُّ طَاهِرٍ مُطَهِّرًا، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ فَرَّقَتْ بَيْنَ

الصفحة 7