كتاب شرح مختصر خليل للخرشي (اسم الجزء: 1)

لَمْ يَرْجِعْ لَهُ وَيَقْنُتُ بَعْدَ رَفْعِهِ فَلَوْ رَجَعَ لَهُ بَطَلَتْ لَا يُقَالُ بِعَدَمِ الْبُطْلَانِ قِيَاسًا عَلَى الرَّاجِعِ لِلْجُلُوسِ؛ لِأَنَّ الْجُلُوسَ أَشَدُّ مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ السُّجُودَ لِلْجُلُوسِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ الْقُنُوتِ فَقَوْلُهُ سِرًّا أَيْ وَنُدِبَ كَوْنُهُ سِرًّا؛ لِأَنَّهُ عَادَ وَهُوَ يُنْدَبُ الْإِسْرَارُ بِهِ حَذَرًا مِنْ الرِّيَاءِ، وَقَوْلُهُ وَقَبْلَ الرُّكُوعِ لَمَّا كَانَ السِّرُّ صِفَةً ذَاتِيَّةً لِلْقُنُوتِ لَمْ يَعْطِفْهُ بِالْوَاوِ وَأَقَامَ الْحَالِيَّةَ مَقَامَهُ، وَلَمَّا كَانَ كَوْنُهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ لَيْسَ صِفَةً ذَاتِيَّةً لَهُ عَطَفَهُ بِالْوَاوِ.

(ص) وَلَفْظُهُ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك إلَى آخِرِهِ (ش) أَيْ وَمِنْ الْمَنْدُوبِ كَوْنُ الْقُنُوتِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَلَوْ دَعَا بِغَيْرِهِ مِثْلِ اللَّهُمَّ اهْدِنَا إلَى آخِرِهِ لَأَتَى بِمَنْدُوبٍ وَأَخَلَّ بِآخَرَ وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى هَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ الرَّابِعُ وَلَفْظُهُ الْوَارِدُ فِيهِ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ تَقْدِيمًا لِرِوَايَةِ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ وَوُثُوقًا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَى خُصُوصِهِ؛ لِأَنَّ الْقُنُوتَ وَرَدَ فِيهِ نَحْوُ عِشْرِينَ رِوَايَةً لَكِنْ قَدَّمَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ لِمَا مَرَّ وَأَصْلُ اللَّهُمَّ يَا اللَّهُ حُذِفَتْ الْيَاءُ وَعُوِّضَ عَنْهَا الْمِيمُ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى ضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى الْمِيمِ إنَّا نَسْتَعِينُك أَيْ نَطْلُبُ مِنْك الْعَوْنَ وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَهُ لِيَعُمَّ وَلَمَّا كَانَ مَشْهُورًا شُهْرَةً تُغْنِي عَنْ ذِكْرِهِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ إلَى آخِرِهِ وَنَسْتَغْفِرُك أَيْ نَطْلُبُ مَغْفِرَتَك أَيْ: سَتْرَك عَلَى مَعَاصِينَا وَتَرْكَ مُؤَاخَذَتِك وَالْمُتَعَلِّقُ مَحْذُوفٌ لِلتَّعْمِيمِ، وَنُؤْمِنُ بِك أَيْ نُصَدِّقُ بِمَا ظَهَرَ مِنْ آيَاتِك، وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْك أَيْ نُفَوِّضُ أُمُورَنَا إلَيْك، وَنَخْنَعُ أَيْ نَخْضَعُ وَنَذِلُّ لَك، وَنَخْلَعُ أَيْ: الْأَدْيَانَ كُلَّهَا لِوَحْدَانِيَّتِك، وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُك أَيْ نَتْرُكُ مُوَالَاةَ مَنْ يَجْحَدُ نِعْمَتَك، اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ أَيْ لَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاكَ الْمَعْمُولُ لِلتَّخْصِيصِ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ أَيْ: لَا نُصَلِّي وَلَا نَسْجُدُ وَلَا نَسْعَى أَيْ نُبَادِرُ فِي طَاعَتِك وَعِبَادَتِك إلَّا لَك
ـــــــــــــــــــــــــــــQيَرْكَعْ ثَانِيًا فَإِنْ رَكَعَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
(قَوْلُهُ فَلَوْ رَجَعَ لَهُ بَطَلَتْ) حَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا نَسِيَ الْقُنُوتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ يَقْنُتُ لَهُ بَعْدَهُ وَلَا يَرْجِعُ لَهُ مِنْ الرُّكُوعِ إذَا تَذَكَّرَهُ فَإِنْ رَجَعَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ مِنْ فَرْضٍ لِمُسْتَحَبٍّ (قَوْلُهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ) أَيْ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الْجُلُوسِ تَرْكُ ثَلَاثِ سُنَنٍ وَمِنْ تَرْكِ السُّجُودِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى ثَلَاثِ سُنَنٍ بَطَلَتْ.
(قَوْلُهُ حَذَرًا مِنْ الرِّيَاءِ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا طُلِبَ مِنْ كُلِّ مُصَلٍّ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ يَبْعُدُ خَوْفُ الرِّيَاءِ؛ لِأَنَّ الرِّيَاءَ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ بِشَيْءٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ كُلُّ النَّاسِ.
(قَوْلُهُ صِفَةً ذَاتِيَّةً) فِيهِ شَيْءٌ فَإِنَّ كَوْنَهُ سِرًّا صِفَةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ وَكَذَا كَوْنُهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَكَذَا كَوْنُهُ بِصُبْحٍ وَجُعِلَ " سِرًّا " صِفَةً وُجُودِيَّةً يُؤَدِّي لِقِيَامِ الْمَعْنَى بِالْمَعْنَى.
(قَوْلُهُ وَأَقَامَ الْحَالِيَّةَ إلَخْ) فِي الْحَالِيَّةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ لِعَامِلِهَا وَصْفٌ لِصَاحِبِهَا فَيُفِيدُ أَنَّ الْقُنُوتَ بِقَيْدِ كَوْنِهِ سِرًّا مَنْدُوبٌ أَوْ إنَّ النَّدْبَ مُنْصَبٌّ عَلَى السَّرِيَّةِ فَلَا يُعْلَمُ حُكْمُ الْقُنُوتِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ مُطْلَقًا.

(قَوْلُهُ لَأَتَى بِمَنْدُوبٍ) أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَتَى بِمُطْلَقِ قُنُوتٍ فِي ضِمْنِ الْفَرْدِ الَّذِي أَتَى بِهِ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يَأْتِي بِأَكْثَرَ بِالنَّظَرِ لِصِفَاتِهِ سِرًّا مَثَلًا.
(قَوْلُهُ هَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ الرَّابِعُ) بَلْ الْمُسْتَحَبُّ الْخَامِسُ؛ لِأَنَّ الْقُنُوتَ فِي ذَاتِهِ مُسْتَحَبٌّ وَكَوْنُهُ سِرًّا مُسْتَحَبٌّ ثَانٍ وَكَوْنُهُ بِصُبْحٍ مُسْتَحَبٌّ ثَالِثُ وَكَوْنُهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ مُسْتَحَبٌّ رَابِعٌ وَكَوْنُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ مُسْتَحَبٌّ خَامِسٌ وَلَعَلَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ يَرَى أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُنُوتِ وَكَوْنَهُ سِرًّا مُسْتَحَبٌّ وَاحِدٌ وَهُوَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ.
(قَوْلُهُ رَوَاهُ مَالِكٌ) أَيْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عَنْ الصَّحْبِ أَوْ التَّابِعِينَ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ غَيْرُهُ وَهُوَ بَعِيدٌ وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إنَّمَا اخْتَارَهُ لِمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: إنَّ أَصْلَهُ سُورَتَانِ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَمِنْ قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك إلَى قَوْلِهِ وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُك سُورَةٌ وَبَاقِيهِ سُورَةٌ رَاجِعْ ك.
(قَوْلُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى ضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى الْمِيمِ) مَنَعَ مِنْ ظُهُورِهَا اشْتِغَالُ الْمَحَلِّ بِحَرَكَةِ الِادِّغَامِ وَكَانَتْ فَتْحَةً لِلتَّخْفِيفِ وَوَجْهُ تَقْدِيرِهَا عَلَى الْمِيمِ أَنَّ الْمِيمَ لَمَّا زِيدَتْ كَأَنَّهَا لَفْظٌ مِنْ لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَلَمَّا كَانَ حَرْفُ النِّدَاءِ فِي صُورَةِ حَرْفَيْنِ عَوَّضَ عَنْهُ حَرْفٌ مُشَدَّدٌ بِحَرْفَيْنِ.
(قَوْلُهُ نَطْلُبُ مِنْك الْعَوْنَ) اسْمُ مَصْدَرٍ لِأَعَانَ أَيْ نَطْلُبُ مِنْك الْإِعَانَةَ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ السِّينَ وَالتَّاءَ لِلطَّلَبِ.
(قَوْلُهُ وَتَرْكَ مُؤَاخَذَتِك إلَخْ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ عَلَى قَوْلِهِ سَتْرَ أَيْ إنَّ الْمُرَادَ بِالسَّتْرِ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الصُّحُفِ وَفِيهِ إظْهَارُ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَحْوُ.
(قَوْلُهُ وَالْمُتَعَلِّقُ مَحْذُوفٌ) لَا يَخْفَى أَنَّ السَّتْرَ إنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْصِيَةِ وَقَدْ بَيَّنَهُ الشَّارِحُ سَوَاءٌ حُذِفَ أَوْ ذُكِرَ فَهُوَ غَيْرُ مُتَفَاوِتٍ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ وَقَالَ عَلَى مَعَاصِينَا لَوَقَعَ فِي الْوَهْمِ أَنَّ الْمُرَادَ مَعَاصٍ مَعْهُودَةٌ وَعِنْدَ الْحَذْفِ فَلَا يَأْتِي ذَلِكَ فَمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ احْتِمَالِ الْعَهْدِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ الذِّكْرِ وَأَمَّا عِنْدَ الْحَذْفِ فَلَا احْتِمَالَ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْأَكَابِرُ.
(قَوْلُهُ نُصَدِّقُ بِمَا ظَهَرَ مِنْ آيَاتِك) يَجُوزُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْمَعْنَى عَلَيْهَا ظَاهِرٌ وَمِنْ لِلْبَيَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْعَلَامَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُودِهِ وَصِفَاتِهِ وَيُحْتَاجُ لِتَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ نُصَدِّقُ بِمَدْلُولِ مَا ظَهَرَ أَوْ الْمُرَادُ نُصَدِّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِهِ وَصِفَاتِهِ فَلَا يُحْتَاجُ لِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ.
(قَوْلُهُ نُفَوِّضُ أُمُورَنَا إلَيْك) أَيْ وَمِنْ شَأْنِ الْكَرِيمِ الْقَوِيِّ إذَا فُوِّضَ الْأُمُورُ إلَيْهِ أَنْ تَأْتِيَ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ.
(قَوْلُهُ وَنَذِلُّ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَيْ نَذِلُّ لَك (قَوْلُهُ وَنَخْلَعُ) أَيْ نَخْلَعُهَا مِنْ أَعْنَاقِنَا فَقَدْ شَبَّهَ الْأَدْيَانَ بِحَبْلٍ لَازِمٍ لِلْعُنُقِ اسْتِعَارَةً بِالْكِنَايَةِ (قَوْلُهُ لِوَحْدَانِيِّتِك) أَيْ لِكَوْنِك وَاحِدًا فِي الْأُلُوهِيَّةِ لَا مُشَارِكَ لَك فِيهَا.
(قَوْلُهُ مَنْ يَجْحَدُ نِعْمَتَك) أَيْ لَا يَشْكُرُهَا وَلَوْ مُؤْمِنًا عَاصِيًا فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ حَقِيقَتَهُ بَلْ جَحْدُ النِّعْمَةِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ أَوْ أَرَادَ النِّعْمَةَ الْعُظْمَى وَهِيَ بَعْثَةُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهَا النِّعْمَةُ الْعُظْمَى فَالْجَحْدُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [المجادلة: 22] الْآيَةَ وَلَا يَرِدُ جَوَازُ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ مَعَ أَنَّ فِي نِكَاحِهَا مَيْلًا لَهَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْمُرَادُ إنَّمَا هُوَ بُغْضُ الدِّينِ.
(قَوْلُهُ وَعِبَادَتِك) عَطْفُ مُرَادِفٍ (قَوْلُهُ إلَّا لَك) أَيْ فَلَسْنَا قَاصِدِينَ بِطَاعَتِك وَعِبَادَتِك رِيَاءً وَسُمْعَةً

الصفحة 283