كتاب شرح القصيدة النونية = شرح الكافية الشافية - ط العلمية (اسم الجزء: 1)
فلأجل هذا قد عزلناها ... وولينا العقول ومنطق اليونان
الشرح:
من الضلالات الشنيعة التي وقع فيها أرباب الكلام المذموم، وكانت محل اتفاق بينهم رغم ما هم عليه من عداوة وخلاف، زعمهم أن الأدلة اللفظية وحدها لا تفيد العلم واليقين، ولكن تفيد الظن الذي لا قطع معه بأحد المعنيين، وعللوا هذا بأن الألفاظ يعرض لها مثل الاشتراك الذي هو وضع اللفظ لمعنيين أو لعدة معان على السواء، فاذا أطلق لا يدري أيها هو المقصود منه، كلفظ العين مثلا، فانه موضوع للباصرة والجارية والشمس الخ.
و يعرض لها كذلك الاجمال الذي يحتاج الى بيان وتفصيل كما في قوله تعالى مثلا: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] فهذا مجمل يحتاج الى بيان الأشياء التي يتناولها اسم الميتة وهل يدخل فيها ميتة البحر والجنين الذي خرج من بطن أمه المذكاة ميتا أو لا يدخل ... الخ، ويعرض لها أيضا المجاز بالزيادة والنقصان، والاضمار الذي لا يعرف معه مرجع الضمير، والحذف الذي لا يدري معه تقدير الحذوف الى غير ذلك من العوارض التي قد تعرض للألفاظ فلا يمكن معها الجزم بمعنى اللفظ. وهذا عارض من جهة من اللفظ. وأما من جهة السند فالنقل اما أخبار آحاد فتتوقف على صدق رواتها، وهو أمر غير مقطوع به ما دام بعضهم يقدح في بعض ويتهمه بالكذب والوضع، أو بسوء الحفظ وعدم الضبط، وأما متواتر وهو نادر وقليل جدا، وهو مع ندرته وقلته يحتاج الى السلامة من المعارض العقلي. هذه هي الشبه التي أدت بهم الى تلك الفرية الكبرى، وهي عزل جميع الألفاظ عن أن تكون نصا في معانيها تفيد القطع بها والحكم عليها جميعا بالاحتمال وافادة الظن، ولزمهم بذلك عزل القرآن والسنن والآثار السلفية عن إفادة العلم، ولكن ذلك انما يستفاد عندهم بالدلائل العقلية التي تركب على قواعد المنطق اليوناني. ولهذه الشناعة التي ارتكبوها، وهي سد باب الهدى والبيان من جهة النصوص الشرعية، حذرنا المؤلف من مقالاتهم، ووصفهم بأنهم شيعة الشيطان أي حلفاؤه في الاضلال والاغواء، وقال سل بهم خبيرا، يعني نفسه، فانه درس هذه المذاهب كلها دراسة تعمق واستيعاب،