كتاب شرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية (اسم الجزء: 1)

قال الآمدي في «المؤتلف»: «ابن خذام الذي ذكره امرؤ القيس في شعره، هو أحد من بكى الديار قبل امرئ القيس، ودرس شعره». ويغلب على الظنّ أن بكاء ابن خذام لم يكن مقدمة لقصيدة مدح؛ لأنّ الأصل في الشعر أن يكون تعبيرا عن الذات، ومن هنا وصف الشعر العربي بأنه شعر غنائي؛ لأنه يغني المشاعر الذاتية في الحبّ والوفاء والذكريات، ولهذا فإن أقدم بكاء الجاهليين على الأطلال كان بكاء حقيقيا، ولم يكن مقدمة مصطنعة كما فعل الشعراء فيما بعد.
فحياة الجاهليين من أهل البوادي، كانت رحلة دائمة، ومع هذا الرحيل فإنهم لا ينسون ذكرياتهم في المكان
المرتحل عنه، وإذا جمعتهم الأيام بالمكان في طريق سفرهم شدّهم إلى الوقوف فيه وتذكّر ما كان في الأيام الخالية: من ذكريات الشباب واللهو والأهل. وليس هذا الصنيع مقصورا على الشعراء. لأنّ تذكّر الماضي والبكاء عليه، والحنين إليه فطرة في قلب كلّ إنسان، مع تفاوت الناس في التعبير. وما زال الناس حتى يومنا يقفون عند المكان الذي حلّوا فيه مدة طالت أو قصرت ويتذكرون ما كان ويتحسرون على ما فات. وإذا لم يستطع أحدنا أن يقف على مرابع الماضي، استدعاها في خياله ووقف عليها وناجاها. وقد تحوّل الوقوف على الأطلال في العصر الإسلامي، إلى وقوف على أطلال الآباء والأجداد، فالشاعر الإسلامي الحضري الذي يقف على الأطلال، يدفعه إلى ذلك حنين إلى مرابع أجداده. وكان كثير من الأندلسيين يذكرون الأطلال والصحراء ومعالم الجزيرة العربية في شعرهم، وهم يسكنون جنة الدنيا، ولم يكن ذلك إلا حنينا إلى مرابع الجذور، وفي الإسلام طرأ نوع جديد من الوقوف على الأطلال، وهو الوقوف على أطلال المسلمين في أيام مجدهم، أو الوقوف على آثار أهل القدوة من المسلمين. فقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب يتتبع الآثار النبوية في سفره بين مكة والمدينة فيصلي في كلّ مكان صلّى فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة فيصبّ في أصلها الماء لكيلا تيبس، وعن نافع - مولى ابن عمر - أن عبد الله بن عمر كان في طريق مكة يقول برأس راحلته يثنيها ويقول: لعلّ خفّا يقع على خفّ - يعني خفّ راحلة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وينقل نافع وصفا لحال ابن عمر وهو يتبع آثار النبي صلّى الله عليه وسلّم فيقول: لو نظرت إلى ابن عمر إذا اتّبع أثر النبي لقلت: هذا مجنون.

الصفحة 37