كتاب شرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية (اسم الجزء: 1)

وكثر فيما بعد شعر الحنين إلى الحجاز من الشعراء الذين فارقوا الحجاز وهم من أهله أو من الشعراء الذين يحنون إلى آثار المسلمين الأولين، فقال أحدهم:
كفى حزنا أني ببغداد نازل … وقلبي بأكناف الحجاز رهين
إذا عنّ ذكر للحجاز استفزّني … إلى من بأكناف الحجاز حنين
فو الله ما فارقتهم قاليا لهم … ولكنّ ما يقضى فسوف يكون
ووقف شعراء العرب في العصر الحديث على آثار العرب في الأندلس، فوصفوها، وبكوا على ما كان من المجد .. وهذا كله نوع من الوقوف على الأطلال، وفيه دليل على تعلّق العربي بآثار من يحبّ، أو بآثار الأقدمين، للبكاء عليها، والحنين إليها حينا، ولأخذ العبرة منها حينا آخر. ويروى أن أحد المتقدمين وقف على معاهد فقال: أين من شقّ أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك؟ ثم قال: إن لم تتكلم حوارا تكلمت اعتبارا.
وقد أطلت في هذه التعليقة، لأقول: إن ابن قتيبة، أو من نقل عنه ابن قتيبة قد فسّر المقدمة الطللية تفسيرا عقليا بعيدا عن العواطف الإنسانية.
وإن النقّاد - من أهل العصر الحديث - الذين نظروا إلى المقدمة الطللية على أنها مبتوتة عن موضوع القصيدة، قدّموا تفسيرا للشعر وهم قابعون في بيوتهم، ولم يذوقوا طعم الترحال الذي ذاقه الأقدمون، ولم يغتربوا عن أوطانهم، ولم يفارقوا أهلهم وأحبابهم. ولو عاشوا حياة الأقدمين تجربة وبيئة، أو خيالا، لتغيرت مفهوماتهم، ولقالوا قولا غير الذي قالوه.
الملاحظة الثانية: حول تفسير ابن قتيبة لمنهج القصيدة: إنّ تعليل ذكر النسيب في القصيدة لإمالة القلوب نحوه، لما جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل ... يمكن ردّه أيضا؛ لأنه جعل نسيب الشاعر مصطنعا لهدف نفعي، وردّ هذا التعليل مبني على ردّنا تفسير المقدمة الطللية، فهو يجعل وظيفة الشعر تهييج مشاعر السامعين وتلبية رغباتهم في المرأة، وكأنه قصة إثارة مصطنعة. والحقّ أن الشاعر يعبر عن عواطفه الخاصة وذكرياته في ميدان الحبّ والاتصال بالمرأة، ودليلنا على ذلك أن النساء اللواتي ذكرن في النسيب، هنّ زوجات، أو فتيات تيّمن

الصفحة 38